ربما حسناً فعلت الشركات الكبرى التي تعالج وتسهّل عمليات الدفع المالي حين غادرت مشروع فيسبوك للعملة المشفرة «ليبرا»، خوفاً من رد فعل قوي من الجهات الرقابية. وإذا كانت «فيسبوك» ترغب حقاً في جلب الخدمات المالية إلى الأشخاص المتعاملين مع البنوك، فيجدر بها أن تفعل ذلك على نطاق أصغر مما كان يَعد به حضور هذه الشركات. على أنه حتى في تلك الحالة، سيظل احتمال الفشل مرتفعاً.
والواقع أنه من الواضح السبب الذي جعل شركات «باي بل» و«سترايب» و«إيباي» و«ماستر كارد» و«فيزا» تقرر عدم الانضمام إلى «رابطة ليبرا» التي كانت شركة فيسبوك تنشئها من أجل إدارة العملة الرقمية المقترحة، ذلك أنها أخذت على محمل الجد تحذيرات عضوي مجلس الشيوخ «الديمقراطيين» بريان شاتز وشيرود براون، من أنها يمكن أن (تتوقع مستوى عالياً من التدقيق من الجهات الرقابية، ليس فقط بخصوص أنشطة الدفع المتعلقة بـ «ليبرا»، وإنما بخصوص كل أنشطة الدفع المالي بسبب عضويتها تلك الرابطة). ومصدر القلق هو إمكانية استخدام عملة مشفرة إلى جانب رسائل مشفرة في صفقات غير قانونية، وبالتالي، فإن كل الأطراف التي لها علاقة بخلق مثل هذه الفرصة سيصبح مشتبهاً فيها.
والواقع أن الجهات الرقابية الأميركية قادرة تماماً على القضاء على مشاريع كبرى للعملة المشفرة. ففي 11 أكتوبر، أعلنت لجنة الصرف والأوراق المالية الأميركية أنها منعت شركة «تيليغرام» من توزيع قطع رقمية، ما يسمى الـ «غرامز»، على المستثمرين الذين ساهموا بـ 1.7 مليار دولار في إنشاء العملة المشفرة العام الماضي. وتشمل قائمة هؤلاء المستثمرين شركات استثمار مغامر أميركية كبيرة مثل «بانتشمارك» و«سيكوا» و«لايتسبيد». والشيء نفسه يمكن أن يحدث بسهولة لـ«ليبرا».
وهذه هي مشكلة البدء على نطاق كبير جداً. فتقديم شركة «تيليغرام» لقطع نقدية رمزية كان الأكبر على الإطلاق. ومن جانبها، قامت فيسبوك بإعلان كبير بخصوص «ليبرا»، وقدّمت قائمة بأسماء شركائها، وجلهم علامات تجارية بارزة في قطاع الدفع المالي. وكان هؤلاء يتوقعون عمليات إطلاق عالمية لعملاتهم المشفرة. ولكن ذلك أثار بالطبع قلق الجهات الرقابية والسياسيين.
ولتجنب هذا النوع من النتائج، كان بإمكان فيسبوك – التي يتمثل هدفها المعلَن من وراء إطلاق «ليبرا» في تقديم خدمات دفع وقروض رخيصة للأشخاص المحرومين حالياً من سوق الخدمات المالية بسبب ارتفاع كلفتها – أن تجرّب الاستراتيجية التي جلبت نتائج لأحد شركائها المتبقين: شركة «فودافون».
فقد أطلقت «فودافون» خدمة الدفع بوساطة الهاتف المتحرك «إم-بيزا» في كينيا في 2007، وأحد أهم نقاط قوة ذاك المشروع كانت موافقة البنك المركزي الكيني على الإطلاق من دون أي رقابة رسمية. وعلى نحو سريع، أنشأت شركة الهاتف المتحرك المحلية التابعة لـ«فودافون»، «سافاريكوم»، شبكة من المتاجر، حيث يستطيع الأشخاص الذين لا يملكون حسابات بنكية دفع المال وتلقيه، وبدأت الهواتف المتحركة قديمة الطراز تتضاعف كمحفظات لعمليات التحويل والشراء. وساهم تضافر عاملي عدم وجود تدخل من الجهات الرقابية، والشبكة المادية الواسعة، التي شجعت عليها عمولات سخية نسبياً، في إعلان «إم-بيزا» بحلول 2019 بلوغ 37 مليون زبون ناشط في سبع بلدان أفريقية.
ولكن محاولات استنساخ هذه التجربة ونقلها إلى أسواق عدة أخرى باءت بالفشل. إذ أغلقت «فودافون» «إم- بيزا» في الهند (جزئياً بسبب العراقيل الرقابية)، وجنوب أفريقيا (بسبب الاهتمام القليل من قبل الزبائن)، ورومانيا وألبانيا (حيث لم تكن مربحة على ما يبدو). لتخلص «فودافون» إلى أنه لا يوجد حل ناجح يمكن تعميمه على الجميع.
والحقيقة أنه ليس من السهل إيجاد أسواق مستهدفة جيدة، حيث لا يملك الكثير من الأشخاص حساباً بنكياً أو أنواعاً أخرى من الخدمات المالية. ثم هناك احتمال أن السكان المستخدمين للنقود في بلد معين يريدون أن يواصلوا التعامل بتلك الطريقة. فأحد الأسباب الممكنة لعدم نجاح «إم-بيزا» في ألبانيا ورومانيا هو أن هذين البلدين لديهما اقتصادان كبيران غير رسميين. فبالنظر إلى أن ما يصل إلى ثلث الناتج المحلي الإجمالي يوجد «في الظل»، فإن الصفقات الإلكترونية القابلة للتعقب تظل غير جذابة مقارنة مع النقود المحسوسة.
ولعل صعوبات إيجاد أسواق مستهدفة جيدة، وذات جهات رقابية ودودة أيضا، تفسّر رغبة فيسبوك في الإطلاق على نطاق كبير، وفي أن ترمي بكل شيء على الحائط وترى ما سيعلق. ولكن خطورة هذه المقاربة تكمن في أن فكرة تقديم خدمات مالية رخيصة للأشخاص الذين لا يتعاملون مع البنوك بدأت تبدو مثل ستار من الدخان هدفه التغطية على إنشاء بنك ضخم غير خاضع للرقابة في العالم المتقدم – وهو أكثر ما تخشاه الجهات الرقابية في أوروبا والولايات المتحدة.
وعليه، فبدلاً من المضي قدماً في دفع الشركاء المتبقين والمجازفة بمواجهة المتاعب نفسها التي واجهتها «تيليغرام»، يجدر بفيسبوك أن تعود إلى سبورة التخطيط، وتبدأ في التفكير في مشاريع أصغر حجماً تناسب احتياجات ومتطلبات بلدان بعينها. في هذه الحالة سيكون التوسع بطيئاً، وستكون ثمة إخفاقات وحسابات خاطئة على طول الطريق، غير أنه ربما سيكون من السهل أكثر إقناع الجهات الرقابية في كل سوق بأن أهداف المشروع غير ضارة.
*كاتب روسي روسي مقيم في برلين
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلوميبرج نيوز سيرفس»