يدخل الغزو التركي للشمال الشرقي السوري ضمن الفوضى الحاصلة في سوريا، ويعطي مؤشراً واضحاً على النوايا التركية المبيتة لقضم جزء مهم من الأراضي السورية وضمها إلى تركيا، وهو تهديد خطير للأمن القومي العربي في إطاره العام، ودليل واضح على هشاشته بسبب بقاء العرب متفرقين في القول والفعل. ولعل جزءاً كبيراً من هذه الفوضى يعود إلى عجز النظام الحاكم في دمشق على فرض سيطرته على مناطق الشمال السوري بسبب الظروف والأحداث التي عرفتها البلاد خلال السنوات الثماني المنصرمة، من جانب، ومن جانب آخر إلى فشل فصائل المعارضة في تحقيق الأمن والاستقرار في المناطق التي سيطرت عليها، وفي تحقيق انتقال سياسي من شأنه تحويل مسار الصراع وقطع الطريق أمام تركيا لمنعها من القيام بعمل عسكري ضد الوطن السوري. والواقع أن تراجع النظام من مناطق الشمال والشمال الشرقي منذ اندلاع الحرب الأهلية، جلب العديد من الجماعات المسلحة، بما في ذلك «حزب العمال الكردستاني» التركي، الأمر الذي اتخذته تركيا ذريعة جاهزة للتدخل العسكري المباشر.
منذ عام 2012 خرجت المناطق الحدودية مع تركيا عن سيطرة النظام، وظهر عدد من الجماعات المسلحة المرتبطة بـ«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) وبـ«الجيش السوري الحر» وبجماعات متطرفة من بينها تنظيم «داعش» الإرهابي، لكي تسيطر على معابر حدودية رئيسة وطرق سريعة ولتنشر الرعب والإرهاب والفوضى. تلك التطورات دلّت على تمزق الأراضي السورية إلى شظايا صغيرة يسيطر عليها مسلحون، بعضهم ثوار حقيقيون وبعضهم الآخر يصطادون في الماء العكر لجني الثروة والمال على حساب دماء السوريين وأرواحهم. ومع ترهل العديد من فصائل الثائرين وانكماشها كـ«الجيش السوري الحر»، وقدوم جماعات مسلحة جديدة ذات أهداف مختلفة عن أهداف المعارضة السورية، خاصة «داعش» و«القاعدة» و«النصرة».. زاد عدد المتقاتلين كما زاد الضغط على الموارد المتاحة، ما وسّع نطاق العنف الدائر. إن أحد المحددات الرئيسة للبنية والطبيعة العنفية هذه، هي أن معظم المقاتلين هم مدنيون وقع في أيديهم السلاح بعشوائية. لذلك فإن كون العنف آتياً من مدنيين تعسكروا بالمصادفة، جعل الولاء لقضية عادلة شبه غائب بين مقاتلين لا قيادة لهم يطيعونها، مما فكّك المعارضة، ومزّق جغرافية سوريا بقسوة.
إن الغزو التركي لشمال شرق سوريا، رغم جميع المبررات التي يسوقها الرئيس التركي، مدعياً حماية بلاده وأمنها القومي، هو أمر مرفوض تماماً واعتداء على دولة عربية ذات سيادة، وهو سلوك عدائي ينتمي إلى القرون الوسطى، وإلى حقب التنافس الاستعماري على أراضي الغير، وهو يناقض وضعاً عالمياً جديداً يفترض أن يكون حراً ومستنيراً تُحتَرم فيه سيادة الدول وسلامة أراضيها ومقدراتها. لكن ما قامت به تركيا من اعتداء سافر على سوريا يوضح محدودية ذلك التفريق وربما عدم مصداقيته في الظروف الدولية الراهنة التي تغيرت فيها العديد من موازين النظام الدولي الذي لم تعد توجد فيه قوة دولية رادعة واضحة المعالم أو أطراف عالمية عظمى تستطيع ضبط إيقاع «النظام العالمي».
ا قصف الشمال الشرقي السوري بالقنابل وتجويع سكانه وحصارهم وقتل الأبرياء منهم من النساء والأطفال والمسنين جماعياً وعلى الهوية، والتهجير القسري لمئات الآلاف منهم.. كلها جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي، لكن يبدو أن مثل هذا العقاب مخصص لرؤساء الدول الضعيفة فقط وليس لكي يطبق على الجميع.

*كاتب إماراتي