التحولات الجيوسياسية الدراماتيكية والعنيفة التي عصفت بشمال سوريا خلال الأسبوع الماضي فجّرتها مكالمةٌ هاتفيةٌ بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في نهاية الأسبوع (وتحديداً يوم 6 أكتوبر 2019). خلال تلك المكالمة الهاتفية، أعطى ترامب أردوغان «إشارة الضوء الأخضر» لغزو شمال سوريا وإقامة منطقة آمنة من أجل عودة الكثير من لاجئي تركيا السوريين الذين فروا من بلادهم عندما بدأت الحرب الأهلية في عام 2011. والمفتاح بالنسبة لقرار أردوغان كان استعداد ترامب لإعلان انسحاب القوات الأميركية الصغيرة والفعالة في آن، المرابطة في شمال سوريا. وهذه القوات هي التي كانت مسؤولة، إلى جانب الأكراد السوريين، عن دحر مقاتلي «داعش» في المنطقة واعتقالهم داخل مخيمات سجون في المنطقة.
غير أنه عندما بدأ الغزو التركي، تدهور الوضع بسرعة، حيث استبد اليأس بالأكراد السوريين الذين تخلى عنهم ترامب. وأمام إمكانية التدمير على أيدي ثاني أكبر جيش في حلف «الناتو»، مرفوقاً بقوات سورية متشددة مناوئة للأكراد ولنظام بشار الأسد، لجأ الأكراد إلى عدوهم السابق، أي الرئيس بشار الأسد نفسه، وحليفه الروسي، طلباً للحماية من بطش القوات التركية المتقدمة. ووقت كتابة هذه السطور، كان القتال ما زال متواصلا، ومرة أخرى، بسط جنود الأسد سيطرتهم على أجزاء من شمال سوريا.
والآن، يواجه ترامب أقوى رد فعل سياسي أثناء رئاسته، حيث يشعر كثير من أنصاره الجمهوريين بالغضب من طريقة تعاطيه غير المنسجمة مع الأزمة السورية وما أضافه الغزو التركي من تعقيد وتصعيد. وفي محاولة منه لوقف رد الفعل الغاضب هذا، اقترح ترامب فرض مزيد من العقوبات على تركيا، لكن أردوغان لم يبدِ أي مؤشر على التراجع. وإذا ما وافقت تركيا بالفعل على اتفاق لوقف إطلاق النار، فإن سبب ذلك على الأرجح سيكون توصلها لاتفاق مع سوريا وروسيا، وليس نتيجة للضغط الأميركي.
والنتيجة كانت خسارة لجزء معتبر من القوة والنفوذ بالنسبة للولايات المتحدة في المنطقة. ومما فاقم هذه الخسارة أكثر، الفرار المحتمل للآلاف من مقاتلي تنظيم «داعش» الذين سيصبحون قادرين الآن على القيام بعمليات إرهابية عبر كل المنطقة وخارجها. وفضلا عن ذلك، فإن التأثير على معنويات القوات الأميركية التي قاتلت إلى جانب الأكراد خلال السنوات الخمس الماضية سيكون كبيراً جداً.
والحال أنه إذا لم تعد أميركا محل ثقة العديد من حلفائها حول العالم، فبوسع المرء أن يتوقع قيام تنظيمات وبلدان أخرى باختبار الإرادة الأميركية من خلال أعمال استفزازية، ومحاولة إظهار أن ترامب متردد وغير قادر على المواجهة واتخاذ القرارات الصائبة في اللحظات الحرجة والحاسمة. وغني عن البيان أن روسيا والصين، لديهما جميعا أسباب وفرص لاختبار الإرادة الأميركية خلال الأشهر القليلة المقبلة. ومن المحتمل أن تقوم بذلك في المناطق الأكثر حساسية بالنسبة للعلاقة الأميركية مع هذه الدول: أوروبا، وشرق آسيا، والشرق الأوسط.
ففي أوروبا، يتمثل هدف روسيا الاستراتيجي الأول في إضعاف تماسك وفعالية حلف شمال الأطلسي «الناتو»، الذي يُعد التحالف العسكري الأكثر فعالية في التاريخ. وهي تستطيع مواصلة القيام بذلك من خلال مواصلة التدخل في المشهد السياسي لبعض بلدان الجوار الضعيفة، ومن بينها بلدان ليست أعضاء في «الناتو» مثل أوكرانيا.
وعلاوة على ذلك، ثمة تهديدات مباشرة أكثر يمكن أن توجّه، وقد سبق أن وُجّهت، ضد دول البلطيق الثلاث، لاتفيا وإيستونيا وليتوانيا. ونظراً لحالة الاضطراب التي تعتري بريطانيا بسبب بريكست، واستمرار قوة الحكومتين اليمينيتين في المجر وبولندا، فقد تميل روسيا إلى اختبار نفوذها أكثر خلال الأشهر المقبلة. والاتجاه نفسه قد ينطبق على شرق آسيا حيث قد يغري تضافر عوامل، مثل ازدياد القومية الصينية في ظل احتجاجات هونج كونج، والخصومة التاريخية الطويلة بين كوريا الجنوبية واليابان، وفشل ترامب في عقد اتفاق مع كوريا الشمالية.. كل ذلك قد يغري الصينَ بلعب دور أكثر ميلا إلى تأكيد الذات بالنظر إلى التردد الأميركي.
غير أن الشرق الأوسط هو المنطقة الأشد حساسية، حيث يتوقع أن تكون تداعيات الأزمة السورية الأكثر إثارة للقلق، لاسيما بالنظر إلى الوضع الخطير في الخليج ، واستمرار الحرب في اليمن منذ الانقلاب الحوثي هناك. فهل سيتم النظر إلى الانسحاب الأميركي في سوريا على أنه فرصة لاختبار تصميم ترامب تنفيذ شعاراته الانتخابية على أمل أن  ينجو سياسياً خلال الشهور المقبلة ويفوز بإعادة الانتخاب عام 2020؟ في كلتا الحالتين، هناك أشياء قليلة تدعو للتفاؤل في الشهور القادمة. والأكيد أن ضعف أميركا ليس في مصلحة معظم البلدان التي ترغب في استقرار النظام الدولي واستمرار النمو الاقتصادي العالمي.