أتخيل أكراداً سوريين يتابعون من مقهى في المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال سوريا، أخبار الاستعدادات التركية لغزو مناطقهم والقضاء على قواتهم هناك، فيبادرون إلى طمأنة بعضهم بعضاً بأن «أميركا إلى جانبنا»، فهم حلفاء أميركا، وفضلاً عن وجود 2000 جندي أميركي بالمقربة منهم، فإن قواتهم ساهمت بدور كبير، وبغطاء جوي أميركي، في تخليص تلك المناطق من تنظيم «داعش» الإرهابي، ولا يتصوّر أن الولايات المتحدة ستسمح بعودة «الدواعش» نتيجة الفوضى التي ستحدث إثر الغزو التركي، خصوصاً بوجود ما يقارب 10 آلاف «داعشي» محتجزين داخل مخيمات تحت حراسة القوات الكردية.
وأتخيلهم مع بدء الغزو التركي للشمال السوري وهم يتصورن أن خلية أزمة ستعقد في واشنطن لدراسة ما يمكن القيام به فوراً، فإذا بترامب يرسل «تغريدات» يطلب فيها من جنوده الشروع في الانسحاب والعودة إلى الوطن، وعدم التدخل في «الحروب السخيفة التي لا نهاية لها»، ويضيف في تغريدات أخرى بأنه تساءل مع جنرالاته حول جدوى القتال لحماية الأراضي السورية، وأنه لا يمانع في أن تقوم روسيا أو الصين أو نابليون بونابرت بحماية الأكراد، متمنياً التوفيق للجميع، فالولايات المتحدة على بعد 7 آلاف ميل من كل ذلك!
سيكمل ترامب على الأرجح مدة ولايته، وبحسب الكثير من المطلعين فإن الاتهامات التي وُجهت إليه بشأن إساءة استخدام السلطة في مسألة الضغط على أوكرانيا لإجراء تحقيق في مزاعم بشأن فساد جو بايدن، ستنتهي إلى لا شيء، وأن فرصة عزله بسبب ذلك تكاد تكون معدومة. إذن ترامب باقٍ سنة أخرى على أقل تقدير، بل هناك اعتقادٌ بأنه سيكسب الانتخابات الرئاسية القادمة، وسيبقى «معنا» إلى سنة 2024 كرئيس أقوى دولة في العالم، وكرئيس للدولة التي صمّمت النظام العالمي الحالي، وكرئيس للدولة التي تحرس التزام دول العالم بالقوانين الدولية.
ترامب، بطريقة إدارته للأمور، وللدقة أمور العالم، يوجّه رسالة من غير قصد، لكنها رسالة واضحة لكل الدول التي تحتاج في ضمان استقرارها إلى تحالفات مع واحدة من الدول الكبرى، بألا تعوّل على الولايات المتحدة، وبأن عليها ألا تثق كثيراً في فكرة أن العالم محكوم بالقوانين الدولية، على الأقل من الناحية العملية، أعني أن القوانين تبقى على الورق من دون وجود دول عظمى ضامنة للالتزام بها.
ولعل الرسالة أبلغ ما تكون لأي أقلية تعتقد أنها لم تحصل على حقوقها في دولتها، سواء أكانت أقلية دينية أم عرقية، وكذلك الجماعات المعارضة لدولها سياسياً، والفئات التي تشكو في دولها من حالة حقوق الإنسان فيها، أو حتى الفئات المعارضة لدولها سياسياً، فمنذ أن تأسس النظام الدولي الحالي على يد الأميركيين بعد الحرب العالمية الثانية، استقرّ في أذهان تلك الأقليات في مختلف أصقاع الأرض بأن «أميركا موجودة»، وبأن «أميركا إلى جانبنا»، وأنها في الوقت المناسب ستدعم نضالهم، أو ستساهم معهم في تحقيق أحلامهم.
في كل مرة يتوقع العالم دوراً لأميركا في الملمات الدولية الكبرى، يعيد ترامب توجيه رسالته إلى العالم بأن أميركا التي نعرفها لم تعد كذلك، وأن على الجميع أن يتدبروا أمورهم‏ بأنفسهم.

كاتب إماراتي