تحتل الأمراض المزمنة غير المعدية، وبالتحديد أمراض القلب، والرئتين، والأمراض السرطانية، وداء السكري، المراكز الأولى باقتدار على قائمة أسباب الوفيات بين أفراد الجنس البشري، حيث يُقدر أن هذه الطائفة من الأمراض تتسبب وحدها في 38 مليون وفاة سنوياً، منها 16 مليون وفاة مبكرة. وترتبط هذه الأمراض وما ينتج عنها من وفيات بمجموعة من عوامل الخطر المؤهِّلة لزيادة احتمالات الإصابة والمرض. ومن بين أهم عوامل الخطر تلك، زيادة الوزن والسمنة، واللذان هما عبارة عن زيادة في حجم ومخزون الأنسجة الدهنية في الجسم، لدرجة تحمل في طياتها عواقب صحية وخيمة.
وتنتج زيادة الوزن والسمنة من جراء حدوث اختلال بين الداخل والخارج من الطاقة. بمعنى زيادة الداخل إلى الجسم من سعرات حرارية نتيجة استهلاك كميات كبيرة من الأطعمة والأغذية مرتفعة المحتوى من السعرات الحرارية، كالدهون والسكريات، وانخفاض الخارج أو المستهلك من الطاقة، بسبب الكسل وغياب النشاط البدني وممارسة الرياضة بشكل منتظم، والذي غالباً ما يكون بسبب الطبيعة الحالية للسواد الأعظم من الوظائف ومهام العمل، بالإضافة إلى تطور سبل المواصلات الحديثة، وزيادة وانتشار ظاهرة التمدن، أي الحياة في المدن.
مثل هذا التغير الغذائي والحركي، غالباً ما يكون نتيجة لتغيرات اجتماعية وبيئية، تترافق مع النمو والتطور الاقتصاديين، وفي غياب سياسات واعية واستراتيجيات فاعلة في العديد من قطاعات المجتمع، وعلى وجه التحديد قطاعات الرعاية الصحية، والإنتاج الزراعي، والنقل والمواصلات، والتخطيط العمراني، والبيئة، وتصنيع وتوزيع الغذاء، وسبل تسويقه، بالإضافة إلى مستوى التعليم والوعي الصحي المجتمعي بوجه عام.
وبالفعل أدت هذه العوامل مجتمعة إلى وباء عالمي من زيادة الوزن والسمنة، يجتاح شعوب ودول العالم قاطبة، ويسري بين أفراد تلك المجتمعات سريان النار في الهشيم. فالبيانات والإحصاءات الدولية تشير إلى أن معدلات السمنة العالمية قد تضاعفت ثلاثة أضعاف منذ عام 1975 وحتى الآن. فحالياً يُقدر أن أكثر من 1.9 مليار شخص، ممن تخطوا سن الثامنة عشرة، مصابون بزيادة الوزن، ومن بين هؤلاء يوجد 650 مليون مصاب بالسمنة المفرطة. وهو ما يعني أن 39 في المئة من البالغين يعانون من زيادة الوزن، و13 في المئة منهم مصابون بالسمنة. ولا يقتصر الأمر على البالغين فقط، حيث يُقدر أيضاً أن أكثر من 41 مليون طفل حول العالم مصابون بزيادة الوزن أو السمنة، وإذا ما أضفنا إلى هذه الفئة العمرية فئة المراهقين، فسنجد أن الرقم سيرتفع حينها إلى 340 مليون مصاب بزيادة الوزن والسمنة بين الأطفال والمراهقين.
وتحمل السمنة وزيادة الوزن في طياتهما طائفةً من الأمراض والعلل ترتبط بهما ارتباطاً وثيقاً، مثل أمراض القلب والشرايين، والتي احتلت رأس قائمة أسباب الوفيات بين أفراد الجنس البشري، خصوصاً الذبحة الصدرية والسكتة الدماغية، بالإضافة إلى داء السكري بمضاعفاته، وأمراض العضلات والمفاصل، مثل التهاب المفاصل المزمن وما قد ينتج عنه من إعاقة حركية دائمة. وفي الأعوام الأخيرة تزايد الإدراك لقوة العلاقة بين السمنة، وبين العديد من الأمراض السرطانية، مثل سرطان بطانة الرحم، وسرطان الثدي، والمبيضين، والبروستاتا، والكبد، والحوصلة المرارية، والكليتين، والقولون، وغيرها.
وبالنسبة للأطفال، فإن المصابين منهم بالسمنة يتعرضون في السنوات الأولى من حياتهم لزيادة ملحوظة في احتمالات استمرار إصابتهم بالسمنة خلال باقي مراحل حياتهم، وللإعاقة، وخطر الوفاة المبكرة. هذا بالإضافة إلى أن هؤلاء الأطفال تزداد احتمالات إصابتهم بالكسور، وبارتفاع ضغط الدم، وصعوبة التنفس، وتظهر عليهم علامات مبكرة لأمراض القلب والشرايين، وزيادة مقاومة هرمون الأنسولين الذي يعتبر مرحلة مبكرة وممهدة للإصابة بالسكري، بالإضافة طبعاً إلى المتاعب والمشاكل النفسية المرتبطة بزيادة الوزن والسمنة.
والمؤسف أن هذه المأساة برمتها، للبالغين والأطفال على حد سواء، وما ينجم عنها من ثمن إنساني فادح، هي نتيجة حالة مرضية من الممكن الوقاية منها، وذلك من خلال إجراءات بسيطة. وربما كان من أهم هذه الإجراءات، خفض الاستهلاك اليومي الشخصي من الأطعمة والأغذية مرتفعة المحتوى من الدهون والسكريات، مع زيادة استهلاك الفواكه والخضروات، والبقوليات، والحبوب الكاملة، والمكسرات والبذور.. بالترافق مع زيادة الحركة والنشاط البدني، لمدة 60 دقيقة يومياً على الأقل للأطفال، و150 دقيقة على مدار الأسبوع للبالغين. ومما لا شك فيه أن تفعيل هذه الإجراءات وتجسيدها على أرض الواقع، يتطلب بيئة داعمة، ومجتمعات واعية، تحت مظلة من السياسات العامة الفاعلة، بشكل يدفع بالاختيارات الفردية والشخصية اليومية على صعيد نوعية وكمية الغذاء المستهلك، وبحجم النشاط البدني والرياضي، نحو الاتجاه الصحيح، ويجعل منها الخيارات الأسهل تنفيذاً، والأكثر توفراً، والأقل تكلفةً.
*كاتب متخصص في القضايا الصحية والعلمية