اعتاد النظام التركي على التنفيس عن أزماته الاقتصادية والسياسية الداخلية عبر التورط في ملفات خارجية، وأكثرها إغراءً بالنسبة له الملف السوري في هذا الموسم، مع تفعيل ملف آخر يستخدمه في كل المواسم، وهو ابتزاز الأوروبيين بقضية اللاجئين، والتهديد بالسماح بتدفقهم إلى القارة العجوز عبر تركيا.
وحالياً تسهم التعقيدات الدولية والمصالح المتشابكة في منح أنقرة الضوء الأخضر لخلط الأوراق في الشمال السوري، ما شجع التوغل العسكري البري من قبل الجيش التركي في مناطق أكراد شمال سوريا.
كانت التوقعات الأولية تذهب إلى أن أردوغان يقفز في مستنقع سوريا بدون حسابات، وإلى أنه يورط تركيا بتوغل سيلقى الاستنكار والرفض العالمي، لكن المؤشرات التي نقرأها حتى الآن من خلال الصمت أو التواطؤ الدولي، تكشف عن لعبة تركية جرى الاستعداد لها سلفاً، بدليل التلكؤ في مجلس الأمن والتردد في إصدار قرار دولي للتنديد بالخطوة التركية، مما يعني أن الجانب التركي على تنسيق تام مع الأطراف ذات العلاقة، وفي مقدمتها إيران ونظام دمشق، أما الولايات المتحدة فمهدت الأرضية عملياً للأتراك بسحب جنودها من نقاط حدودية في مناطق الاشتباك. وهناك آلاف المقاتلين السوريين الذين دربتهم تركيا للقتال معها وباسمها، وهم يتقدمون الصفوف ويرفعون العلم التركي. كما أن طول أمد الحرب في سوريا منح الأتراك أفضلية، مثل آخرين، في صناعة وتدريب ميليشيات حليفة لهم. وبالتالي فما يحدث في الشمال السوري لا يخلو من شبهة الحرب بالوكالة نيابة عن تركيا.
التوغل التركي في الشمال السوري يهدف إلى استخدام ورقة اللاجئين، وتأكد ذلك بالحديث المتكرر عن إعادة توطين السوريين في المناطق التي تنتظر تركيا أن تصبح خاضعة لها، وخالية من الأكراد الموالين لـ«حزب العمال الكردستاني»، وهم في الشمال السوري يتحركون تحت اسم «قوات سوريا الديمقراطية» و«وحدات حماية الشعب»، والأخيرة تمثل الجناح العسكري لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني».
وتزداد الخريطة السورية تعقيداً، وهذا ما تستغله تركيا التي تغلف تحركاتها العسكرية بمحاربة ما تصفه بالإرهاب. لكن من أبرز تناقضات أنقرة التلميح بإعادة النازحين السوريين إلى مناطقهم، بالتزامن مع تجاهل المخاطر والأوضاع الإنسانية القاسية التي تتهدد حياة وأمن غالبية السكان في الشمال السوري إثر توغلها لجديد.
ومع تسارع تنفيذ تركيا لتهديدها ببدء الأعمال العسكرية في العمق السوري، يلمس المتابع للأحداث أن تركيا حصلت على ضوء أخضر من القوى الدولية الكبرى، بينما يبدو التلويح الأميركي بفرض عقوبات على أنقرة مجرد ذر للرماد في العيون، وتغطية متبادلة على تقاسم النفوذ والمكاسب المستقبلية المنتظرة في الساحة السورية.

حتى الآن أظهرت الوقائع ما يكشف عن خبث مساعي تركيا ومحاولتها تجنب القلق من احتمالات الغرق في المستنقع السوري، وذلك من خلال عدم الاضطرار إلى إرسال قوات تركية، مقابل إرسال قوات سورية موالية لأنقرة، تتكفل بالتوغل إلى أطول مسافة ممكنة في شمال سوريا، وضع لها سقفاً يصل إلى 30 كيلومتراً، يريد الأتراك بسط نفوذهم ورفع علمهم عليها. وهدف أردوغان المباشر محاولة اكتساب نقاط لرفع شعبيته المتناقصة، بالترويج الإعلامي المكثف لموضوع تأمين حدود بلاده من هجمات الأكراد، مع تجاهل الثمن الذي سيدفعه السكان في الشمال السوري.

*كاتب إماراتي