دفع انتخاب دونالد ترامب، ثم تصريحاته بحق بعض الرؤساء وصناع السياسات السابقين وخصومه.. دفع العديد من دعاة التعاون بين الدول إلى الانسحاب والخضوع بشكل طوعي. لكن الجمهور الأميركي يبِين الآن عن قدر كبير من العقل والمنطق بشأن دور أميركا في العالم. فوفق استطلاع حديث لـ«مجلس شيكاغو للشؤون العالمية»، فإن نسبة كبيرة من الأميركيين –من الحزبين– تدعم التحالفات الأمنية الأميركية، وترى أن التجارة جيدة للبلاد، وتفضل دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتتباين هذه النتائج مع كتابات خبراء السياسة الخارجية الذين يعتقدون أن إحباطات الجمهور من الأعباء الدولية تتطلب تقليص دور أميركا العالمي. ذلك أن 69في المائة من الأميركيين يريدون من بلادهم لعب دور نشط في شؤون العالم، ويفضلون زعامةً مشتركةً (66في المائة) على سعي واشنطن للهيمنة (26 في المائة).
ورغم تقليل ترامب من شأن التحالفات، فإنها ازدادت شعبية. ذلك أن 74 في المائة من الأميركيين يفضلون تحالفات البلاد العسكرية، ومنها التحالف مع اليابان (78في المائة)، وألمانيا (75 في المائة)، وكوريا الجنوبية (70 في المائة). كما أشار الجمهور إلى مقاربة استراتيجية تجاه هذه العلاقات. فالأميركيون يريدون الإبقاء على التفوق العسكري (69 في المائة)، ويرغبون في نشر جنود في بلدان حليفة (51 في المائة)، لكن 27 في المائة منهم فقط يعتقدون أن التدخلات العسكرية تجعل البلاد أكثر أمناً. ويتوقع الأميركيون من هذه الشراكات أن تحافظ على السلام من خلال الردع والدفاع.
أما بخصوص الهجرة، فرغم أن ترامب يمارس حمائية للمصالح الخاصة جد مكلفة، فإن الأميركيين لا يرغبون في انعزالية اقتصادية، إذ يعتقد 87في المائة منهم أن التجارة مفيدة للاقتصاد الأميركي، ويعترف 83 في المائة منهم بأنها مفيدة للشركات الأميركية.
استطلاع «مجلس شيكاغو» يحدّد اختلافات بين الحزبين في ما يتعلق بالهجرة والمناخ، لكن حتى بعض هذه الاختلافات تضيق أمام حلول براغماتية: إذ أن ما بين 65 و81 في المائة يوافقون على سياسة هجرة تزاوج بين طريق لنيل الجنسية بالنسبة للمهاجرين غير الشرعيين الذين يستوفون بعض المعايير، وزيادة أمن الحدود، وغرامات على الشركات التي توظّف مهاجرين غير شرعيين.
والواقع أنه حتى بالنسبة للصين التي تثير مشاعر عدائية لدى البعض في واشنطن، فإنها تثير رداً آخر لدى الجمهور، إذ ينظر 42في المائة من الأميركيين إلى قوة الصين باعتبارها تهديداً، لكن 68 في المائة يفضّلون تعاوناً ودياً معها، مقارنة ب31في المائة يريدون الحد من قوتها. واللافت هنا أن 74في المائة يؤيدون التجارة مع الصين.
وعليه، فسيتعين على من سيخلف ترامب أن يبني على هذه المشاعر من خلال مبادرات تعالج المشاكل الحالية. ولعل نقطة البداية هي معاملة الجارَيْن الأميركيين الشماليين كشريكين، وليس كخصم. الولايات المتحدة بحاجة إلى أمن حدودي، وسيتعين عليها العمل مع المكسيك وكولومبيا وكوستاريكا وبنما.. لخلق ظروف آمنة وفرص اقتصادية في أميركا الوسطى. وينبغي أن تكون أميركا الشمالية قاعدة قارية آمنة، بثلاث ديمقراطيات مزدهرة، تستعرض منها الولايات المتحدة نفوذها العالمي.
ولقيادة هذه التحالفات، ينبغي على الدبلوماسية الأميركية أن تجمع شركاءها معاً، لا أن تفرّقهم. وعبر التركيز على التهديدات المتنامية، مثل الهجمات السيبرانية، والتدخلات الانتخابية، والانتشار النووي والصاروخي، وتنمر الدول السلطوية، وبث بذور «داعش».. تستطيع الولايات المتحدة إعادة إنشاء التماسك والالتحام والشعور بوحدة الهدف.
وبدلا من عرقلة التجارة بالرسوم الجمركية، تستطيع الولايات المتحدة المزاوجة بين الاتفاقيات التجارية والبيئية لفتح أسواق جديدة مع تقديم حوافز لتقليص الكربون وحماية التنوع البيولوجي، وخاصة في الاقتصادات النامية. كما ينبغي لها أن تدافع عن حكم القانون وتحارب الفساد، بدلا من التلاعب بالسياسة والتحقيقات لمساعدة شعبويين على التمسك بالسلطة. ولا شك أن الحلفاء والشركاء التقليديين في أوروبا وآسيا (ونظراءهم الجدد في أميركا اللاتينية وأفريقيا) سيتعبأون من أجل حماية الفضاء السيبراني والانتخابات ووضع الزعماء السلطويين في وضع دفاعي في بلدان مثل كوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا.
إن استطلاع «مجلس شيكاغو» يؤكد أن الأميركيين ليسوا مستعدين للتخلي عن أسس السياسات الخارجية التي جعلت الولايات المتحدة القوةَ الأكثر نجاحاً في العالم. والتحدي الوطني الآن هو تحديد الزعماء السياسيين الذين يستطيعون تطبيق تلك المبادئ على جيل جديد من المشاكل، بما يعيد ربط قوة الولايات المتحدة بأهدافها الكبرى.
*رئيس سابق للبنك الدولي، سبق أن عمل نائباً لوزير الخارجية الأميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»