لا يولد الجديد من جديد، لكنه تطور للقادم، والمستقبل محصلة تفاعلات الحاضر، لكنها مقولة برغم صحتها لم تعد صلبة متماسكة كما كانت على مدى التاريخ، فالمستقبل يبدو منقطعاً عن الماضي بدرجة كبيرة، وفي كتاب أستاذ العلاقات الدولية في معهد العلوم السياسية؛ «برتران بادي»: «عندما يعيد الجنوب اختراع العالم، بحث في قوة الضعف»، شعور عميق وغامض بالنظام العالمي القادم، لكنه (بادي) يظل أسيراً لعرض وتحليل النظام الدولي منذ تشكله وفق معاهدة وستفاليا (1648) حتى اليوم، وعندما يصل إلى السؤال الذي اختار له في الصفحات القليلة المتبقية من الكتاب عنوان اختراع العالم، كأنه يقول لنا انسوا كل ما قلته لكم في الكتاب، إذ لم يعد التاريخ كما السياسية والاجتماع يسعفنا كثيراً في تقدير المستقبل، ومنذ أدخل ابن خلدون (توفي في عام 1406م) استقراء التاريخ لفهم الاجتماع والسياسة وتقدير المستقبل، يعيد الفكر الإنساني إنتاج نفسه بثقة ونجاح في وعي الذات وإنتاجها أيضاً. لكن العالم ومنذ أطلق «ألن تورينغ» (مات منتحراً في عام 1954) مشروعه العلمي لمعالجة المعلومات معالجة منطقية؛ يمضي العالم في تسارع كبير في مسار جديد، متغيراً بسرعة مذهلة، ويحرق المراحل وينتج مراحل أخرى جديدة يطوي بعضها بعضاً، لقد أنتح العالم تغيرات عميقة وسريعة تفوق كماً ونوعاً التغيرات التي حدثت على مدى سبعمائة سنة، بدءاً بالنهضة الأوروبية، ومروراً بالثورة الصناعية، وانتهاء بالحرب العالمية الثانية؛ عندما بدأت النهضة الأوروبية ثم الثورة الصناعية، فقد انهار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشيوعية في أواخر الثمانينيات، وواجه العالم ما سمي «فقاعة الإنترنت» في العام 2000 ثم دخل في أزمة مالية كبرى وعميقة في العام 2008، ثم دخل إقليم الشرق الأوسط في حالة من الفوضى والصراع والتوتر صار يرمز إليها عالمياً بـ «الربيع العربي»: وهي في واقع الحال على خلاف تسميتها حالة عالمية، لكنها أخذت في عالم العرب مسار الفوضى. لكن ذلك ليس سوى مظهر بسيط جداً بالنسبة للتغيرات التي تجري في الموارد والأعمال والمؤسسات والتجارة والاقتصاد والثقافة والعلاقات الدولية والاجتماعية.
يقول المفكر المستقبلي الفرنسي «جاك أتالي»: تتحول الإنترنت إلى قارة سابعة، وإلى قوة في ذاتها، وكيان مستقل، وتدير وتحرك أنظمة مالية واجتماعية وثقافية خارج السلطة السياسية والثقافية، حتى المركزية الأميركية المنشئة للإنترنت تتعرض للتحدي والأزمة.
لكن ثمة فرصة عظيمة ناشئة عن سؤال ملح وضروري يفرض نفسه على جميع الأمم، الصغيرة والكبيرة، والغنية والفقيرة عن موضعها الممكن في النظام العالمي الجديد وفي إمكانية المشاركة العالمية على نحو يجعل كل أمة أو دولة تتقبل العالم ويتقبلها، وتأخذ منه وتعطيه، وتضيف إليه ما يمكن أن يؤثر في مستقبله تأثيراً كبيراً وعميقاً.
يمكن الإشارة اليوم إلى حالتين واضحتين للأمم التي تقدمت على أساس الأفراد الفاعلين، وهما سنغافورة؛ الدولة التي حولت معظم مواطنيها إلى أفراد متعلمين تعليماً متقدماً، ويمتلكون مهارات ومعارف ساعدتهم في إنشاء اقتصاد متقدم يحقق أعلى مستويات في العالم لمعدل دخل الفرد، واليهود الذين استثمروا في التعليم والمهارات المتقدمة؛ إذ يمثلون نسبة كبرى في العلماء والأطباء والمديرين الكبار للشركات العالمية والرواد العالميين في الاقتصاد والتجارة والعلوم والآداب والفنون؛ ما جعلهم برغم عددهم القليل أمة مؤثرة وقيادية في العالم.
إن النظام العالمي يتشكل على نحو مختلف عن المرحلة الماضية، ولم تعد نفسها المعاني والدلالات التقليدية لمكونات النظام العالمي، مثل السيادة والإقليمية والهيمنة والحوكمة العالمية والجهات الفاعلة والصراع وتعددية الأطراف، مفاهيم ومعاني جديدة، ذلك أنه يتشكل فضاء عالمي جديد بلا حدود، ويصعب التحكم المركزي والسلطوي به أو تنظيمه، وتتنامى فرص الفاعلين جميعهم، دولاً وجماعات وشركات ومؤسسات؛ بل وأفراداً أيضاً للمشاركة في صياغة النظام والتأثير فيه، وقد يبدو ذلك خارج الخيال والتصور، لكن أحداثاً فردية كثيرة أو تنتمي إلى مجموعات قليلة محدودة هزت العالم وغيرت فيه بعمق.
ويلاحظ «برتران بادي» أن النظام الدولي يتفاعل اليوم مع تحديات الاستقرار وفق أربعة محاور: التوترات المتزايدة بين الشمال والجنوب، في الوقت الذي يتماثل العالم في القيم والاستهلاك وأسلوب الحياة، وصعود الهويات الفرعية والمهمشة والمرجعيات الدينية والروابط القبلية والمشاعر الحماسية الإثنية، وتعقيد أو صعوبة الرد على الهجمات والأعمال الإرهابية، والتكاليف المالية والاقتصادية الهائلة للمواجهة مع العنف والفوضى.
وفي إعادة البناء للنظام الدولي، يتحدث «بادي» عن تصور جديد للسيادة يتجاوز التخيل الهرمي القديم للدول، ويمتد التغيير أيضاً ليعصف بالإقليمية لصالح الخصوصية، وتتخلى الهيمنة والقوة عن الاستقطاب وتفقد معنى السلطة، وإعادة تشكيل الفضاء العالمي في إطار تشاركي يتواءم مع نشوء المنافع العامة العالمية، والاندماج الاجتماعي الدولي، إذ السلام صار يرتبط بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.