مع أن العراق عرف منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 أحداثاً جساماً متتالية، إلا أن الانتفاضة الشبابية الراهنة ضد الفساد والبطالة والأزمة الاجتماعية الخانقة، تتميز بكونها خلت من أي استقطاب طائفي، على عكس الأحداث السابقة التي كانت في جوانبها البارزة مظهراً لحرب أهلية دموية طاحنة.
ودون الرجوع إلى ما حدث بعد الحرب الأميركية على العراق عام 2003، نكتفي هنا بالإشارة إلى ما أصبح يقرّ به الجميع من خطأ تفكيك الدولة من خلال حل الجيش والحزب الحاكم اللذين كانا عماد الكيان السياسي الوطني العراقي المنظم. لقد بدا من الجلي أن النموذج الليبرالي التمثيلي قد يصلح في تدبير التعددية السياسية في دولة مركزية قائمة، لكنه غالباً ما يكون عقيماً في هندسة البناء السياسي الناشئ.
ومن هنا ندرك أن تجارب الانتقال السياسي الناجحة في العالم راعت استمرارية المؤسسات السياسية القائمة والعمل من داخل الشرعية الحاكمة، سواء تعلق الأمر بدول أوروبا الجنوبية في سبعينيات القرن الماضي أو أوروبا الشرقية بعد نهاية الحرب الباردة، وهو السيناريو الذي تم اعتماده أيضاً في التجارب الديمقراطية الناجحة في أفريقيا (وعلى رأسها تجربة دولة جنوب أفريقيا بعد نهاية نظام التمييز العنصري) وفي أميركا اللاتينية كذلك.
وعلى عكس أدبيات المراهقة السياسية السائدة في العالم العربي، لم تكن الثورات في الغالب أفقاً للتغيير الجذري الآمن، بل إن تجارب التحول في أوروبا الحديثة، بيّنت بوضوح أن مسلك الإصلاح السياسي المتدرج على غرار مسار التوافقات الاجتماعية الذي سلكته إنجلترا، كان أكثر فاعلية وأقل تكلفة من مسار الثورة الذي سلكته فرنسا فعرفت مراحل فظيعة من التوتر السياسي وأنماط الاستبداد الثوري العنيف، قبل استقرار الوضع السياسي فيها بعد قرن ونصف من قيام ثورة عام 1789.
وفي العالم العربي اليوم نموذجان كبيران من الانتقال السياسي، يتعلق احدها بالبلدان التي دخلت في مسار الحروب الأهلية ولم تعد فيها الدولة قادرة على أداء دور «ضامن للحياد الإيجابي الفاعل»، حسب عبارة الفيلسوف الألماني كارل شميت، والدول التي تخضع فيها الأزمات السياسية لمنطق التسوية السياسية الإصلاحية ضمن معايير الشرعية الدستورية القائمة.
في الخانة الأولى سوريا وليبيا واليمن حيث انهار كلياً البناء المؤسسي للدولة وأصبح المطروح هو إعادة بناء النظام السياسي من أصله وفق قواعد توافقية جديدة، وليس الأمر سهلا بالنظر لتعدد مقاربات واستراتيجيات الفاعلين السياسيين، وصعوبة احتكار الدولة لشرعية العنف من أيدي المليشيات المتقاتلة.
أما في الخانة الثانية، فتبدو الأمور أسهل، ما دام البناء المؤسسي للدولة قائماً، وما دام الوضع الأمني مستقراً، حتى ولو كانت المؤسسة العسكرية طرفاً أساسيا في عملية الانتقال التوافقي ضمن هياكل الشرعية الدستورية والسياسية القائمة.
لا يمكن تصنيف العراق في أي من النموذجين، وغني عن البيان أن مسار البناء السياسي التوافقي فيه لا يزال مفتوحاً بعد مرور عقد ونصف العقد على سقوط النظام البعثي السابق، ولم تفض نهاية «الخلافة الداعشية» في وسط العراق وشماله إلى تسوية وضع «المناطق السنية»، كما أن موضوع الانفصال الكردي مل زال قائماً، والأخطر من ذلك كله أن محاولات إعادة بناء الجيش العراقي لا تزال متعثرة نتيجة لهيمنة المليشيات الطائفية المدعومة إيرانياً. ومن هنا نستنتج أن الهياكل الدستورية والمؤسسية التي تولدت عن المرحلة الانتقالية بعد حرب 2003 لم تنجح في حل معضلة الشرعية السياسية، وإن كان الوضع القائم ولَّد معادلة موضوعية لابد من التعامل معها في أي مسار إصلاحي توافقي.
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن قيام الدول المركزية هو في الغالب مصادفة تاريخية سعيدة وليس حالة بديهية، وجل دول العالم نشأت كنتيجة لحروب وصراعات أهلية مسلحة، بما فيها الدول القومية الكبرى، وفي عالمنا العربي كان ذلك يحدث في غالب الأحيان كنتيجة للتوافقات بين القوى الاستعمارية. أما حالات البناء التوافقي للدولة فنادرة ولا تتعدى عادة تجارب الاستفتاء الانفصالية التي كثيراً ما تكون الحل الحتمي بعد صراعات عنيفة مدمرة (إريتريا، جنوب السودان والبوسنة وكوسوفو..).
كتب المفكر الفرنسي الكسيس دي تكوفيل في كتابه المشهور حول الديمقراطية الأميركية أن الديمقراطية نظام ممتاز لتسيير الحاضر، لكنها تعاني من مصاعب جمة في تدبير الماضي والمستقبل. وما يعنيه تكوفيل هنا هو أن الديمقراطية ليست نظاماً لتأسيس الشرعية السياسية، وإنما هي الإطار القانوني التوافقي للتعددية القائمة في مجتمع حلَّ معضلة التعايش السلمي.