مع تراكم الاضطرابات السياسية والأمنية، واحتدام المعارك العسكرية والحروب الأهلية في بعض البلدان، كما يحصل حالياً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي المنطقة الأغنى في العالم، تستفيد الدول الكبرى في مجالات عدة، تحقق من خلالها مكاسب متنوعة لدعم اقتصاداتها، تبدأ بتجارة السلاح التي تشتد المنافسة عليها، وفق تطور النفوذ الجيوسياسي والعسكري، ولا تنتهي باستغلال مخاطر الوضع الأمني واستثماره بعائدات «القروض السيادية»، حيث يتراوح ما يسمى بـ «ثمن المخاطر» بين 9 إلى 15 في المئة، حسب تطور خطورتها بين بلد وآخر، ومدى إقبال المستثمرين على شراء السندات.
وبما أن المستثمرين الدوليين في الأصول المالية، قلقون على المستقبل، ولم يعد لديهم الرغبة بالاحتفاظ بسندات أو أسهم شركات، لما ينطوي مثل هذا الاستثمار على مخاطر كبيرة، وهم يخشون ركوداً عالمياً يتسبب بانهيار أسواق الأسهم وغيرها من الأصول المالية الخطيرة، لذلك يفضلون الاحتفاظ بأصول آمنة جدا، كالسندات الحكومية للدول الكبرى (الأميركية، الألمانية، البريطانية، اليابانية، والسويسرية) التي لن تنهار مثل أي شركة أو مصرف. ولكن على رغم انخفاض معدل الفائدة، فإن المستثمرين يستفيدون عند رفع أسعار هذه السندات في السوق، إضافة إلى معدل فائدة سنوية ثابتاً، إلى حين استحقاقها، وتكون المكاسب مزدوجة.
أما البلدان التي تدفع «ثمن المخاطر»، بسبب ما تشهده من اضطرابات أمنية وسياسية، فهي مضطرة للحصول على «قروض سيادية» بتكلفة مرتفعة، وتسعى لجذب استثمارات خارجية بعرض فوائد عالية تصل إلى نحو 18 في المئة، مثل مصر وتركيا، مع العلم أن الأسواق المالية تعتمد على تصنيف الائتمان لكل بلد حسب الوكالات الدولية. ففي العام 2015، حاول العراق إصدار سندات قروض دولية بقيمة 6 مليارات دولار، ولكن وزير المال في حينه هوشيار زيباري أمر بوقفه بسبب ارتفاع تكلفة الفائدة والبالغة نحو 11 في المئة، لأن العراق كان يواجه «أزمة ثقة دولية» نتيجة تدهور وضعه المالي وتراجع تصنيفه الائتماني إلى درجة «سلبية»، على رغم أنه دولة نفطية غنية وصاحب خامس احتياطي في العالم، وثاني منتج داخل أوبك بعد السعودية. وفي مطلع 2017، استعان بالحلفاء إذ وقعت حكومة بغداد مع الولايات المتحدة اتفاقية تحصل بموجبها على قرض قيمته مليار دولار بضمان أميركي وبفائدة مخفضة، ووافق البنك الدولي بدوره على حزمة تمويل جديدة بقيمة 1.5 مليار دولار لدعم الإصلاحات المالية والاقتصادية.
وصادف في ذلك الوقت، أن بلداً كلبنان تصنفه الوكالات الدولية بنفس درجة العراق، لكنه نجح بإصدار سندات «يوروبوند» بقيمة 3.6 مليار دولار بفائدة 6.2 في المئة وتستحق سنة 2030، وكان يتباهى دائماً بدفع فائدة أقل من الدول المماثلة له. أما اليوم فالوضع مختلف تماما نتيجة زيادة المخاطر الأمنية واشتداد الأزمة المالية، خصوصاً مع تشديد الولايات المتحدة العقوبات ضد «حزب الله» ومواجهة قادة الحزب ذلك، بتوسيع أضرار هذه العقوبات لتشمل البلد كله، في محاولة للضغط على واشنطن. ومن هنا يخشى اللبنانيون تثبيت فرضية «بلومبيرج» لجهة دفع أعلى أسعار فائدة على سندات حكومية في العصر الحديث، في وقت تستعد فيه وزارة المالية لإصدار جديد «يوروبوند» بحدود الملياري دولار، وبفائدة 11.25 في المئة لاستحقاق 10 سنوات و12.5 في المئة لـ 15 سنة، مع العلم أنه مطروح اليوم في السوق إصدار لاستحقاق 2029 بفائدة 13 في المئة. وبما أن سعر الفائدة المرجعية في لندن ونيويورك يدور حول 2 في المئة يكون «ثمن المخاطر الأمنية» الذي يدفعه اللبنانيون نحو 10 في المئة.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية