للمرة الثالثة منذ انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، حضر دونالد ترامب اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الرابع والعشرين من شهر سبتمبر الجاري، وكان خطابه أمام قادة العالم، كما كان في الماضي، شعبوياً ومناهضاً للعولمة بامتياز. وقد تحدث الرئيس الأميركي بروية، والتزم على نحو واضح بالنص المعد سلفاً. وحض في خطابه الدول الأخرى على تشديد الضغوط الاقتصادية على إيران، وقال بهذا الشأن: «لا ينبغي على أية حكومة مسؤولة تقديم العون لإيران المتعطشة للدماء». ثم أضاف قائلاً: «طالما استمرت السلوكيات الإيرانية المهدّدة للأمن والاستقرار، فلن يتم رفع العقوبات، وإنما سيتم تشديدها». وسيحتاج ترامب إلى الدعم في سياسته تجاه إيران، لأنه يبدو في موقف صعب، وقد يواجه أخطر أزماته على صعيد السياسة الخارجية.
ومن الجدير أن نتذكر كيف وصل إلى هذا الوضع الصعب. فعندما أصبح ترامب رئيساً تعهد بالمضي قدماً في وعده الانتخابي بسحب الولايات المتحدة من «خطة العمل المشتركة الشاملة»، المعروفة إعلامياً بـ«الاتفاق النووي الإيراني». وكانت الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي قد وقعت مجتمعة على الاتفاق مع إيران في عام 2015. لكن ترامب خلال حملته الانتخابية وبعدها كرر القول بأن الاتفاق معيب تماماً، وأنه سيتفاوض على اتفاق أفضل.
وأعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني في الثامن من مايو عام 2018، وأصر على أن استئناف العقوبات على طهران وإضافة ضغوط مالية جديدة ستقنع إيران بالتفاوض على اتفاق أفضل من الاتفاق الموقع عام 2015. غير أن الإيرانيين أوضحوا أنهم لن يُذعنوا لهذه الضغوط، وبدؤوا بدلاً من ذلك في تكثيف جهودهم من أجل التسبب في مشكلات جديدة للولايات المتحدة ولجوارهم الإقليمي، من خلال زيادة الدعم للمتمردين الحوثيين في اليمن، والميلشيات الشيعية في العراق، وتوسيع الأنشطة الإيرانية في سوريا بهدف التخلص من بقايا القوات المعارضة هناك. ورغم ذلك، تعاونوا تكتيكياً في الوقت ذاته مع العمليات الجوية الأميركية لتدمير تنظيم «داعش» الإرهابي في العراق وسوريا.
وجاء أول هجوم إيراني خطير على قوات الولايات المتحدة في العشرين من يونيو عام 2019، عندما أسقطت قوات من الحرس الثوري الإيراني طائرة استطلاع أميركية تقدر قيمتها بـ150 مليون دولار. عندئذ تعهد ترامب وفريق الأمن القومي بالرد، وطالب ترامب الجيش الأميركي بتجهيز عدد من الأهداف من شأنها الإضرار بإيران، على ألا تُسقط أعداداً كبيرة من الضحايا. وصرح بأن رده المقترح كان سيحظى بالموافقة، لكنه ألغى الضربة المقترحة من دون أن يتشاور مع أحد في فريقه، وذلك قبل تنفيذها بعشر دقائق فقط. وشعر مرؤوسو ترامب بالصدمة من قراره، والذي بدا مماثلاً لقرار باراك أوباما المفاجئ بعدم توجيه ضربة ضد سوريا بعد أن استخدمت أسلحة كيميائية ضد المتمردين، ومن ثم تجاوزت «خطاً أحمر» كان أوباما نفسه قد وضعه وأكد أن تجاوزه يعني استخدام القوة العسكرية الأميركية.
وفي الرابع عشر من سبتمبر الجاري، بدا الهجوم الخطير على منشأتي النفط التابعتين لشركة «أرامكو» السعودية، والذي تورطت فيه إيران، أبرز دليل حتى الآن على أن طهران لم تردعها العقوبات الاقتصادية الإيرانية، وعلى أنها تبدو عازمة على تصعيد الصراع، وهو ما يضع ترامب في موقف صعب. فإذا واصل الرئيس الأميركي الدعوة إلى تطبيق مزيد من العقوبات الاقتصادية من دون استخدام القوة، فلن يكون هناك سبب يحمل إيران على التراجع عن استراتيجيتها الراهنة. وكلما طال أمد تفادي الولايات المتحدة استخدام القوة العسكرية، زادت جرأة الهجمات الإيرانية. لكن أي رد عسكري أميركي جاد لا بد أن يكون قوياً بما يكفي ليسبب ضرراً حقيقياً لقوات إيران العسكرية وبنيتها التحتية. وهو ما يمكن أن يفضي بسهولة إلى حرب أوسع نطاقاً وحتماً إلى خسائر بشرية إيرانية وأميركية.
وبالنسبة لترامب، الذي تولى السلطة وهو عازم على تفادي أي انزلاق في مزيد من الحروب بالشرق الأوسط، فإن تأثير أي مواجهة عسكرية محتملة يمكن أن يكون كارثياً من الناحية السياسية، وذلك في ضوء حقيقة أن الولايات المتحدة هي الآن أكبر منتج للنفط في العالم، ولذا فهي في وضع قوي يجعلها قادرة على تعويض إمدادات النفط المستوردة من الشرق الأوسط.
وفي حالة اندلاع حرب مع إيران يمكن أن يخسر ترامب انتخابات الرئاسة الأميركية العام المقبل، لكن غياب رد قوي ضد إيران يؤكد أن المصداقية الأميركية في المنطقة ضعفت، وعندئذ ستسعى القوى الإقليمية لتعويض فقدانها الثقة في الضمانات الأمنية الأميركية. وفي كلتا الحالتين، لن تكون النظرة لترامب وللسياسة الأميركية في الشرق الأوسط جيدة.