ما زالت مشكلة عدم الثقة المتبادلة تُخيِّم على المشهد السوداني، وتُثير مخاوف من تداعياتها في حال نشوب خلافات أعمق مما ظهر حتى الآن، رغم أن العلاقة أصبحت أفضل كثيراً بين القادة العسكريين والأمنيين، وقوى الحرية والتغيير، بعد توقيع الاتفاق السياسي الذي يُحدد الإطار العام لمرحلة الانتقال، والإعلان الدستوري الذي يتضمن القواعد المنظمة لهذه المرحلة.
غير أن قوى الحرية والتغيير لم تتمكن بعد من بناء ثقة كاملة بين مكوناتها، نتيجة ميراث سياسي طويل. وظهرت هذه المشكلة في اختيار ممثليها في مجلس السيادة، الأمر الذي أدى إلى تأخير إعلانه لمدة يومين، كما قادت إلى تأخير إعلان تشكيل حكومة الدكتور عبد الله حمدوك لأكثر من أسبوع.
لكن هذا النوع من الخلافات المتعلقة بتولي مواقع قيادية، يبقى أقل خطراً من الخلاف الذي يعد العائق الأكبر أمام الانتقال إلى سودان جديد. فقد تنامت مشكلة عدم الثقة بين الدولة ومعظم القوى السياسية في ناحية، والحركات المسلحة التي تسيطر على مساحات لا يُستهان بها في مناطق النزاع الأساسية، وينضوي أكثرها تحت لواء «الجبهة الثورية». ولذا، لم تشارك هذه الحركات في ترتيبات مرحلة الانتقال، وفى أجهزة الحكم الانتقالي التي تتولى إدارة الأوضاع خلالها، بعد أن رفضت الاتفاق السياسي والإعلان الدستوري.
وتكتسب قضية إنهاء الحرب وتحقيق السلام في مناطق النزاعات المسلحة أولوية، ويزداد الأمل في حلها بعد النجاح الجزئي الذي حققته وساطة ترعاها حكومة جنوب السودان، والتوصل إلى وثيقة تهدف لبناء الثقة في 11 سبتمبر الجاري (إعلان جوبا)، وتتضمن إجراءات أهمها تثبيت وقف إطلاق النار في مناطق النزاعات، وإطلاق سراح الموقوفين. وتنص الوثيقة، التي وقعها كل من مجلس السيادة والحكومة، والجبهة الثورية، إلى جانب إحدى الحركات المسلحة الأخرى، على تكوين لجنة مشتركة واعتماد آليات مراقبة، والإعداد لمفاوضات معمقة تبدأ في 14 أكتوبر المقبل. وتمثل هذه الوثيقة بداية طيبة لمسار قد يقود إلى إنهاء النزاعات المسلحة، إذا أدى إلى الحد من أزمة عدم الثقة المتبادلة تدريجياً، برغم رفض بعض الحركات المسلحة، وتأسيسها «جبهة المقاومة السودانية المتحدة» في 15 سبتمبر.
وربما تساعد متابعة تطور جهود الوساطة في الأسابيع القادمة، في الإجابة عن سؤال كلاسيكي في مثل هذه النزاعات، وهو: هل تعود صعوبة حلها بالأساس إلى أزمة عدم الثقة، أو إلى طبيعة الصراع الأهلي وتعقيداته، خاصةً عندما تتراكم تداعياته، وتُسال في معاركه دماء غزيرة؟
والقاعدة العامة، أنه كلما كان النزاع أكثر حدة وتعقيداً ازدادت حالة عدم الثقة المرتبطة به. وتنطبق هذه القاعدة على النزاعات المسلحة في السودان، ومن ثم على قضية إنهاء الحرب وتحقيق السلام. ومن الأدلة القوية على عمق أزمة عدم الثقة أنها موجودة بين الحركات المسلحة أيضاً. ومن تجلياتها القطيعة بين جناحي حركة مسلحة كانت واحدةً لسنوات طويلة، وهي حركة تحرير السودان. لكننا نجد أبرز تجليات أزمة عدم الثقة في رفض الحركات المسلحة الإعلان الدستوري، رغم أنه يتضمن نصوصاً بالغة الأهمية بشأن أولوية مطلبها الرئيس، المتعلق بإنهاء الحرب وتحقيق السلام. فمثلاً تنص المادة السادسة على أن «تكون الأولوية خلال الستة أشهر الأولى في الفترة الانتقالية للعمل الجاد لإحلال السلام»، وتضع المادة السابعة هذه المهمة في صدارة المهام التي تلتزم أجهزة الدولة بإنفاذها في الفترة الانتقالية: «العمل على تحقيق السلام العادل والشامل، وإنهاء الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها». وعاد الإعلان في المادة 67، فأكد أولوية هذه القضية، وأضاف الالتزام بتطبيق قرار الأمم المتحدة 1325، وقرارات الاتحاد الأفريقي ذات الصلة، وكذلك إصدار العفو العام في الأحكام الصادرة ضد قادة وأعضاء الحركات المسلحة بسبب عضويتهم فيها.
وعندما نتأمل هذه النصوص، وغيرها، نجد أنها من القوة بحيث تكفى للاقتناع بجدية إيمان من وقعوها بضرورة أنهاء النزاعات المسلحة وتحقيق السلام في السودان. لكن أزمة عدم الثقة تحول دون اقتناع الحركات المسلحة بذلك.
ولذا، يؤمل أن يكون التقدم الجزئي، الذي أسفر عن توقيع «إعلان جوبا»، بداية مسار يؤدي إلى بناء الثقة تدريجياً بين الحركات المسلحة وأجهزة الحكم الانتقالي، على نحو يتيح التفاوض لحل الخلافات الموضوعية، في أجواء مواتية للوصول إلى حلول تنهي نزاعات تفاقمت في العقود الثلاثة الماضية.