تلقي شخصية الرئيس الأميركي دونالد ترامب بظلالها على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية. فالرجل قدّم وعوداً للناخبين تقوم على توفير الوظائف ودعم الاقتصاد، لكنه لا يتمكن من ربط الاقتصاد بالسياسة كما تتطلب الظروف الواقعية والضغوط الدولية الطارئة.
لم تكن شخصية رجل الأعمال ومنطق التاجر بعيدة طوال الفترة الماضية عن توجهات الإدارة الأميركية، ومن خالفها في واشنطن فإنه يصبح على خلاف مباشر مع ترامب شخصياً. تضاف إلى ثوابت ترامب وميوله الاقتصادية ضغوط الانتخابات القادمة، التي تجعل كل خطواته محسوبة بدقة، إلى درجة أن دبلوماسية ترامب مع قاعدته الانتخابية التي اعتادت وعوده الاقتصادية، تدفعه للتخلي عن الدور الأميركي التقليدي تجاه الأمن الدولي والموقف من القوى المتمردة، وفي مقدمتها إيران.
من هذه الزاوية يمكن تأويل عدم اتخاذ واشنطن قرارات حاسمة تجاه إيران والاكتفاء بتصعيد العقوبات ضدها، فيما يؤدي التردد الأميركي والقيود المتحكمة بصناعة القرار إلى مزيد من الضرر لأمن المنطقة. وذلك يشمل تهديد الاقتصاد العالمي بالركود، علاوة على الانعكاسات التي سوف تطال الدولار الأميركي إذا ما تفاقمت التداعيات الناجمة عن الجنون الإيراني الذي بلغ حدَّ الاعتداء على قطاع إنتاج النفط في المملكة العربية السعودية.
ولعل ما ينقص ترامب في هذا الشأن هو تقليب أوراق الماضي القريب، المؤسس لضمانات دعم الاقتصاد الأميركي ومنح قيمة معتبرة لعملة بلاد العم سام. فعقب نهاية الحرب العالمية الثانية كانت قيمة الدولار الأميركي تشهد حالة من التذبذب وعدم الثقة، وبعد مجازفات وتقلبات واتفاقيات فاشلة، حدث الاتفاق الجوهري في سنة 1973 بغرض حل هذه الإشكالية الخطيرة المتمثلة في عدم الثقة بالدولار، عندما أبرم الرئيس نيكسون صفقة مع المملكة العربية السعودية، في عهد الملك الراحل فيصل، ونص الاتفاق الذي هندسه هنري كيسنجر على اعتماد عملة الدولار في التجارة النفطية، ثم استثمار العائدات المالية في الخزينة الأميركية عبر شراء عقود وسندات، ومقابل ذلك التزمت الولايات المتحدة بتعهدات أمنية تشمل بالضرورة حقول النفط. وكان من نتائج ذلك الاتفاق سريانه على دول «أوبك» باعتماد الدولار في تجارة النفط العالمية، ما وفّر حماية تلقائية للدولار وللاقتصاد الأميركي حتى اليوم، في مقابل تخلص الخزينة الأميركية من ربط الدولار بالذهب بعد أن أصبح مرتبطاً بالنفط الأجنبي.
وفي الوقت الحالي نجد ما يدل على تراجع أميركي يكاد الأميركيون أنفسهم يلمسونه، حيث تغيرت السياسة الأميركية كثيراً وفقدت قوتها المعنوية والتزاماتها الدولية التاريخية المحسومة منذ عقود؛ خاصة أن ما كان شراكة وطيدة بين دول المنطقة والولايات المتحدة كانت له انعكاسات طيبة على الاقتصاد العالمي برمته. فهل يعرف ترامب أن أميركا تحولت إلى قوة عظمى بفضل شراكاتها وربط عملتها باقتصاد النفط وصادراته التي ترفد الطاقة العالمية بنسبة هائلة قادمة من الشرق الأوسط؟
لا شك أن المحللين الأميركيين يتذكرون الإخفاقات العسكرية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، إذ فشلت الولايات المتحدة عسكرياً في أماكن عديدة، وأنتجت في مناطق تدخلها العسكري أنظمة فاشلة، بدءاً من معاركها العبثية في فيتنام والعراق وأفغانستان والصومال، بينما تتراجع واشنطن أو يخفت صوتها لتبحث عن فرصة لعقد اتفاق نووي جديد مع طهران، فيما تتبجح الأخيرة بقدرتها على تهديد أمن الطاقة العالمي. وتكشف لنا تجارب التفاوض مع إيران، أن أي اتفاق معها محكوم عليه بالفشل ما لم يحد من أطماعها المغلفة بأيديولوجيا تبرر العدوان على الآخرين.
ومن مجمل الأحداث الأخيرة نستنتج أن عربة الاقتصاد في أميركا لن تتحرك إذا لم تقترن بالسياسة الخارجية لواشنطن، وليس فقط بالحسابات الانتخابية لترامب. وفي الوقت ذاته تحتاج حماية الاقتصاد الدولي وأمن الطاقة إلى تحالفات والتزامات، تضع في الاعتبار التاريخ الذي تم فيه الاتفاق على اعتماد الدولار الأميركي عملةً لبيع وشراء النفط. وذلك يتطلب بالضرورة عودة إلى النهج الأميركي الذي خرج عليه ترامب بحماس انتخابي مبكر، عندما يلمح إلى أن المخاطر الأمنية التي تهدد اقتصاد النفط في الخليج لا ترتبط بالأمن الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية!

*كاتب إماراتي