كافح البشر طويلا، سائرين فوق أشواك ونار، باحثين عن الحرية والعدل والأمان، حتى ظفروا في نهاية قرون من المعارك الدامية، بشكل اجتماعي حديث، ينعمون في ظلاله الوارفة، بعد طول شقاء وعناء وعنت، بكثير مما تاقت إليه نفوسهم، وتصورته مخيلاتهم، وتأملته أذهانهم المكدودة، ألا وهو «الدولة الوطنية».
فعلى مدار زمن طويل انتقلت البشرية من الكهوف وقبضة العشائر إلى الإمبراطوريات التي اتسعت تحت سنابك الخيل، وصليل السيوف، وزمجرة الدبابات، وقصف المدافع، وأزير الطائرات، ثم إلى الدول القومية التي قامت على تعصب عرقي وديني تم تبريره تحت لافتات مثل «التبشير» و«الدعوة» و«نشر الأيديولوجيا» و«تسريع التصنيع» و«فرض التمدن» و«المجال الحيوي» و«ملء الفراغ»، ومن كل هذا إلى الدولة الوطنية، التي تقوم على «المواطنة»، حيث لا تمييز بين سكانها على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو الجهة أو اللغة.
هذه الغاية التي جاهد الناس من أجلها، كانت محط نظر الكاتب والأكاديمي د. علي راشد النعيمي، فأفرد لها كتابًا تحت عنوان «الدولة الوطنية.. صناعة النهوض»، ينتصر فيه لحق الناس في العيش المشترك الذي يُعلي من قيم التسامح والتعايش والتعارف والتفاهم والحوار، تحت راية واحدة، يحدد حقوقهم وواجباتهم وينظم علاقاتهم دستور، ويرتبها قانون وأعراف إيجابية، ويكون عليهم أن يدافعوا عما ارتقوا إليه، ويبذلوا في سبيله كل نفيس وعزيز.
وهذا الكتاب هو ابن تجربة لصاحبه، يقصها علينا في مقدمته، حيث عاش سنوات متفاعلا مع، وشاهدا على، أفكار تجرح مفهوم «الدولة الوطنية» وتستبيح كل شيء، وكل أحد، في سبيل عدم تطبيقه في الواقع المعيش، وعايش تجارب على النقيض من هذا، متنقلا بين بيئتين: محافظة وتقليدية، وبين نظامين تعليميين: مدني وديني، وهنا يقول: «شاءت الأقدار أن أعيش تجربة ثرية متنوعة مليئة بأبعاد ومتغيرات، عندما أنظر إليها بعد المرور بها، أجد أنها متفردة في صعوباتها، وقاسية في معطياتها، ومؤلمة في تعرجاتها وانتقالاتها، فقد تكونت في ثلاث بيئات مختلفة، وعايشت ثقافات في جوهرها متناقضة، وتعلمت في مدارس وجامعات من المستحيل أن تكون في منظومة واحدة».
فالنعيمي بدأ تعليمه في الإمارات، ثم حصل على البكالوريوس والماجستير من جامعة بالولايات المتحدة، والدكتوراه من جامعة محمد بن سعود الإسلامية، فأتاح له هذا النمط من التعليم الاحتكاك بأفكار ورؤى متعددة، انتهى من إمعان النظر فيها، وتمحيصها، وتقليبها على وجوهها، إلى التمسك بالدولة الوطنية، باعتبارها ضرورة، وآخر شكل اجتماعي مناسب توصل إليه الناس في رحلة طويلة للبحث عن إطار جامع، لاسيما أن النعيمي لا يتعامل مع هذه المسألة في شقها المادي فحسب، بل إنه يتفاعل بإيجابية شديدة مع الجوانب المعنوية والرمزية التي تحل فيها، وتصنع حولها أفكارا وقيما فلسفية وسياسية.
وهذه الخلفية الدراسية والخبرة الحياتية أتاحت للكاتب أن يقارن بين مفهوم الدولة الوطنية وبين المفاهيم الأخرى التي يريد بعضها أن يزيحها، مثل «الدولة القومية» و«دولة الخلافة» و«الأمة» و«الدولة الطائفية»، وبعضها ترك مرارات تاريخية في ظل نزعات قومية آمنت بالحتميات التاريخية، وبعضها أدى دوره التاريخي وانتهي لكن يُراد استعادته من قبل جماعات وتنظيمات متشددة تحت عنوان «إحياء الخلافة»، رغم أنها تنظيم إداري اجتهد فيه الصحابة ولم ينزل به نص قرآني، أو «دولة الفكرة» كما يعتقد أنصار جماعة الإخوان، الذين يقولون «أينما كانت فكرتنا حلت دولتنا»، ويسعون إلى ما يسمونه «أستاذية العالم».
وقد أتاحت خلفية الكاتب من الدراسة الدينية، الموزعة على فقه وتفسير وتأويل وفكر وتاريخ إسلامي، وكذلك معرفته بظروف المجتمعات الغربية من خلال الدراسة والسفر والقراءة، فرصة لنقد الأفكار المعوقة والمضادة لمسار الدولة الوطنية ومصيرها، ما أعطى الكتاب عمقا، رغم أنه يمتد أفقيا ليطوق عناوين موضوعات عدة، وإن كان بينها ناظم مشترك يحمله العنوان العام، الذي يتفاعل ويتشاكل ويتجادل مع رؤى نظرية في الغرب والشرق تعلي من مكانة «الدولة الوطنية» وترى فيها الشكل الاجتماعي والسياسي الذي يجب أن يقتنع الناس به، ويلتفون حوله.