حين ظهر الإنسان على الأرض تكونت الجماعات البشرية التي تحولت مع الوقت إلى مجتمعات وكل مجتمع يجمعه نسق ثقافي واحد، ثم بدأت تظهر الحضارات الإنسانية على الأرض. كان الشعور بالأمن هو الدافع الأكبر لسعي الإنسان لتكوين الجماعات والانخراط داخل مجموعات ثقافية متشابهة. وسعى الإنسان لامتلاك القوة كي يكون قادراً على مواجهة التهديدات، ومع نمو الشعور بالأمن داخل المجتمع، اتجه الإنسان إلى المزيد من التنظيم وظهور التشريعات والقوانين التي تقدم للإنسان المزيد من الشعور بالأمان والاستقرار، مع احتفاظ كل مجتمع بنسقه الثقافي المميز به، وكان التبادل الثقافي المؤثر يحتاج إلى فترات زمنية طويلة، كي يحدث أثراً واضحاً في المجتمعات.
وحديثاً في ظل التسارع التكنولوجي والتغير والتطور المتلاحق في كافة مناحي الحياة المادية من علوم وتكنولوجيا الاتصالات والتواصل ما بين الثقافات المختلفة، والذي أصبحت سرعته يصعب السيطرة عليها، ويتبع ذلك حالة التأثير والتأثر ما بين الثقافات، مما يؤدي إلى إحداث تغيير سريع ومربك أحياناً في طرق المعايشة اليومية فتتعرض بعض المجتمعات المتباطئة في النمو الحضاري والعلمي لحالة اشتباك ما بين العادات المكتسبة من التواصل الثقافي المتسارع ومحاولة الشباب التشبه بتلك الأنماط الثقافية والأخلاقية التي يتعرف عليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة في المجتمعات المتقدمة حضاريا وعلميا والربط القاصر ما بين الأنماط الحياتية لها وبين التطور الكبير والرفاهية الاقتصادية والعلمية مما يؤدي لتغير في نظرة الأجيال الجديدة للقيم والأخلاق. يزيد ذلك ضعف الوعي وعدم تفهم أسباب التطور الحقيقي مع غياب الرؤية الاستراتيجية المعتمدة على تنمية العقل البشري والبناء المعرفي بعيداً عن الخرافة والمحيط الأسطوري الذي يحيط عقلية المجتمع فتتسع الفجوة ما بين الأنماط السلوكية والقيم الأخلاقية وبين الموروث الثقافي للمجتمع مما يعرض الأجيال لفجوة كبيرة تنهار فيها القيم والموروث الأخلاقي فتتداعي بعض أساسيات الأمن والسلم المجتمعي ويصبح المجتمع في حالة سيولة تفقده استقراره.
نحن أمام إشكالية تمس الوجود، لذلك لابد أن نجد حلولاً لتلك الإشكالية التي ما إن اتسعت لكانت ذات أبعاد اجتماعية سلبية.
ومن وجهة نظري، هناك عدة نقاط لابد أن نضعها في حسباننا ونحن نفكر في حل لتلك الإشكالية للحفاظ على الأمن والسلم المجتمعي:
أولا: لابد أن ندرك أنه ليس كل موروث هو إيجابي، فهناك بعض الموروثات القيمية متجمدة عند حدود زمن ظهرت فيه، لكن لابد أن تخضع للتطور والتغير مع حالة التدفق الحضاري الحديثة، لذلك لابد أن نقوم بانتقاء تلك الموروثات التي لا تتعارض مع الحضارة الحديثة، ولا تحدث خللاً في رؤية الأجيال الجديدة للموروث، وتبني جداراً ما بينه وبين القيم التي تربينا عليها، مما قد تؤدي إلى حالة رفض كامل لكل موروث.
ثانيا:العمل على تنمية العقل النقدي في عقول أطفالنا وطلابنا في المدارس من خلال تنميته على التفكير الفلسفي، وتنمية عقله النقدي وعدم كبت جماحه، فلابد أن نعيد للمدارس دراسة الفلسفة والمنهج الفلسفي في التفكير.
ثانيا: احتواء الشباب وهذا التطور الكبير في معارفهم وتعارفهم على الثقافات المختلفة وغرس فيهم الثقة بثقافتهم وحضارتهم التي ليست وليدة اليوم، بل هي حضارة قديمة ممتدة لآلاف السنين.
ثالثا: تنمية الطموح العلمي والابتكاري للشباب، والعمل على تطوير كل ما يرتبط به من نتاجات ابتكارية وعلمية.
رابعا: الحرص على عدم القطيعة بين الشباب وبين اللغة العربية، لأنها الوعاء الثقافي الذي يحافظ على شخصيتهم وميراثهم الثقافي وفي الوقت نفسه لا ننقص من الاهتمام بتعلم لغات العالم وخاصة اللغات التي يتم تداول العلم بها.
ويبقى لنا أننا في الإمارات قطعنا شوطا كبيرا في احتواء تلك الإشكالية، ولكن مازال الطريق طويلاً أمامنا لنقل مكانتنا الحضارية من مستهلكين للعلم إلى دولة منتجة للعلم مع احتفاظها بخصوصيتها الثقافية دون انهيار لقيمنا الأخلاقية، حتى نحافظ على التماسك والأمن المجتمعي.. وأرى أننا على الطريق الصحيح مع التأكيد على احتياجنا للمزيد من العمل والحرص على إبقاء المسيرة في طريقها حتى نحقق غايتنا، وهي بناء حضارة إماراتية حديثه يصنعها مجتمع آمن ومتماسك ومتمسك بقيمه، تساهم في رفع الرصيد البشري من الفكر والثقافة والعلم.