كرّست شبكة «سي إن إن» خلال الأسبوع الجاري سبع ساعات لبرامج عن التغير المناخي، واستضافت مرشحين «ديمقراطيين» بارزين لاستجوابهم بشأن هذه المسألة. وليس لدي اعتراض على قرار الشبكة، لكنني أرغب أن تخصص شبكة إخبارية ما قدراً مماثلاً من الوقت لأزمة أكثر إلحاحاً.. تقتل عشرات الآلاف من الأميركيين في الوقت الراهن، أكثر من تفشي أي وباء في أسوء أحواله، وأكثر حتى من حرب فيتنام!
والاختصار الملائم لهذه الأزمة هو: «وفيات اليأس»، وهي عبارة رنّانة صاغها الخبيران الاقتصاديان «آن كيس» و«أنغوس دايتون» لوصف الارتفاع المفاجئ في عدد الوفيات نتيجة الانتحار وتناول الكحول وتعاطي المخدرات منذ بداية الألفية الحالية.
وكشف تقرير جديد من اللجنة الاقتصادية المشتركة التابعة لمجلس الشيوخ نطاق هذه الزيادة، ويوضح أنها ارتفعت من 22.7 حالة وفاة بسبب اليأس لكل من 100 ألف أميركي في عام 2000 إلى 45.8 حالة لكل 100 ألف في 2017، متجاوزة كافة ارتفاعات القرن العشرين السابقة.
وبالمقارنة مع التغير المناخي، قدّر تقرير «تقييم المناخ الوطني» أن ارتفاعات درجات الحرارة يمكن أن تُسبب ما يتراوح بين 4000 و10000 حالة وفاة إضافية مرتبطة بالحرارة سنوياً بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين. ولو أن معدلات وفيات اليأس واصلت الارتفاع بمستويات عام 2000، فإن ما يناهز 70 ألف أميركي كانوا سيموتون خلال العام الجاري وحده.
وعلى رغم من غياب نقاش شبكة «سي إن إن» للقضية، من الممكن إدراك عدد من النظريات الملائمة للأزمة، وتصور كيف يمكن أن تجري المناقشات بشأن «وفيات اليأس»:
فالتكنوقراط (بصوت العمدة بيت بوتجيج) سيقول: «إنها ترجع في الأساس لتعاطي المخدرات وأزمة الصحة العقلية، والطريقة الوحيدة لحلها هي وضع برامج أفضل وأكثر لعلاج إدمان المخدرات، ورعاية نفسية أفضل وأكثر، وبهذه الطريقة سننقذ حيوات مريض ومدمن ومركز علاجي في الوقت ذاته».
والاشتراكي (بصوت بيرني ساندرز) سيقول: «إنها أزمة اقتصادية واضحة! فالناس يشعرون باليأس لأن وظائفهم سُلبت منهم، وأجورهم ثابتة، وخطف الأثرياء الاقتصاد. افرضوا ضرائب على الأثرياء، وارفعوا الحد الأدنى للأجور، وامنحوا الجميع تأميناً صحياً، وسوف ترون انعكاساً في اتجاه هذه الأزمة».
وأما أنصار الإصلاح الثقافي (بصوت الكاتبة ماريان ويليامسون) فسيقولون: «لا يمكن علاج هذه الأزمة أو حل المشكلة بدراستها فحسب، فهناك فراغ روحي في أميركا، وفقدان للهدف والأفق. والمشكلة ثقافية وروحية وشمولية، ولابد من أن يجمع الحل الجوانب الثلاثة».
وقد كتبت ذلك بأصوات مرشحين «ديمقراطيين» للرئاسة الأميركية، لكن هناك أيضاً أصوات موازية لهم لدى «الجمهوريين»، فبدلاً من التكنوقراط، تخيلوا البيروقراطيين يتحدثون عن منع المخدرات وأمن الحدود، وبدلاً من الاشتراكيين، هناك شعبويون يتحدثون عن الصين والسياسات الصناعية، وبدلاً من أنصار الإصلاح الثقافي، هناك رجال الدين يتحدثون عن العودة إلى التجديد الديني.
فهل أي من هذه الوصفات تبدو مقنعة؟
يميل تقرير مجلس الشيوخ إلى حل التكنوقراط، زاعماً أن الزيادة في الوفيات بسبب المخدرات مختلفة عن الوفيات نتيجة الانتحار وتناول الكحول وأكثر إلحاحاً، ويقودها بوضوح «تغيير في المعروض والإدمان وخطورة المخدرات»، وهو ما يشي بأن على صناع السياسات الحفاظ على تركيزهم على مشكلة المواد الأفيونية المخدرة على وجه الخصوص، بدلاً من افتراض أن جميع الاتجاهات التي تدفع معدلات الوفاة للارتفاع لابد من حلها جملة واحدة.
وهذا الاستنتاج يتسق مع طرح سابق من الصحافي «تشارلز فين ليمان» لدى «واشنطن بوست» بأننا ينبغي أن نُجزّئ مشكلة «اليأس» إلى تصنيفات مختلفة: أزمة المخدرات التي يدفعها انتشار الهيروين والفينتانيل، والتي تتطلب حلاً على صعيد سياسات مكافحة المخدرات، وأزمة الارتفاع في معدلات الانتحار والاكتئاب وإدمان الكحوليات بين البيض من الطبقة العاملة متوسطة العمر، والتي قد تخففها السياسات الاقتصادية، والزيادة في الاكتئاب والانتحار بشكل عام بين الشباب، والتي تكون لأسباب أكثر غرابة (مثل وسائل التواصل الاجتماعي) وقد تكون حلولها روحانية ونفسية.
وكنصيحة لصناع السياسات هذه التجزئة تبدو منطقية بشكل كبير، ليس فقط لأن الرئيس المقبل من المرجح أن يتمكن من تحسين سياسات مكافحة المخدرات أكثر من حظر أجهزة الأيفون أو بدء عملية تجديد ديني.
لكن في الوقت ذاته، فإن تزامن اتجاهات تدمير الذات المختلفة هي حقيقة قاسية في الحياة الأميركية. والتوافق لا يبدو مثل مجرد التزامن، أو التواقت من دون تشابك، خصوصاً عند أخذ المؤشرات الأخرى في الحسبان مثل انهيار معدلات المواليد وتراجع معدلات الزواج وتآكل الثقة الاجتماعية، وكلها تشير إلى معاناة المجتمع من نقص في معنى الحياة وفقدان للهدف والتفاؤل والاتجاه.
لذا إذا كنا بصدد البحث عن حل لما يقتل عشرات الآلاف من أبناء بلادنا، فمن المهم أن نلفت الانتباه إلى المعالجين الثقافيين، مثلما نفعل مع المحادثات السياسية بشأن ما هو ممكن في الفترة الرئاسية المقبلة.
وقلّما يدوم اليأس كظاهرة اجتماعية، فقوة ما أو قوى ستقدم صوراً جديدة لمغزى الحياة في نهاية المطاف، لكن ليس المهم حدوث ذلك فحسب، وإنما ماهية هذه القوى.
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2019/09/07/opinion/the-age-of-american-despair.html