لم ينج لبنان بعد من المؤشرات السلبية لوكالات التصنيف الدولية، وتسعى سلطاته المالية والنقدية خلال فترة ستة أشهر للتخفيف من تأثيراتها على وضع المالية العامة التي تعاني من عجز كبير، إضافة إلى تفاقم عجز الميزان التجاري، وتراكم عجز ميزان المدفوعات الذي يعكس زيادة كبيرة في حجم خروج الأموال بما يفوق حجم تدفق الاستثمارات الخارجية والتحويلات المالية إليه، وهي عوامل سلبية تهدد الاستقرار النقدي وتعرض سعر صرف الليرة إلى التدهور مقابل الدولار الأميركي.
وبما أن الاقتصاد اللبناني «مدولر»، ولدى القطاع المصرفي ودائع بقيمة 170 مليار دولار (70 في المئة منها محررة بالعملات الأجنبية وأقل من 30 في المئة بالليرة اللبنانية)، يبدو أن وكالات التصنيف تدرك حجم المخاطر المرتبطة بالتحديات التمويلية المحلية، وعلاقتها بتمويل خدمة الدين، وهي تشكل أحد مصادر الضغط الرئيسية، وتحدياً أساسياً في ظل أزمة التدفقات المالية، خصوصاً أن أي ارتفاع في خدمة سندات «اليوروبوندز» تحديداً، يمثل عنصرا شديد الحساسية في المرحلة الراهنة، لأنها تكلفة مستحقة بالدولار، وترتبط بالحاجات التمويلية بالعملة الصعبة. وذلك في الوقت الذي صنفت فيه وكالة «فيتش» لبنان بدرجة متدنية جداً بما يدخله في دائرة الدول غير الصالحة للاستثمار فيها، وقد قدرت في تقريرها الأخير حاجات الاقتصاد اللبناني بـ24 في المئة من الناتج المحلي سنوياً، أي ما يعادل نحو 15 مليار دولار.
على رغم ذلك، يطمئن البنك المركزي وجمعية المصارف اللبنانيين ولاسيما المستثمرين ورجال الأعمال على الوضع النقدي، استناداً إلى حجم احتياطي العملات الأجنبية الذي يفوق 33 في المئة من الودائع بهذه العملات لدى القطاع المصرفي، من دون احتساب مخزون الذهب البالغة قيمته 12 مليار دولار. وتشكل هذه السيولة قياساً إلى حجم الودائع نسبة جيدة بالمقاييس العالمية، رغم النزيف الذي شهده لبنان في مدفوعاته الخارجية، وتراجع التحويلات والاستثمارات الأجنبية المباشرة، علما أنه استطاع دفع نحو 1.1 مليار دولار في مايو الماضي، تسديدا لديون مستحقة عليه للخارج.
وفي هذا المجال برزت أهمية «التناغم»القائم بين البنك المركزي الذي يقوم بهندسات مالية تضمن بعض الأرباح لدعم القطاع المصرفي، وبين المصارف التي تدعم بدورها احتياطي العملات الأجنبية، وكان آخرها قيام أحد المصارف بإيداع المركزي نحو 1.4 مليار دولار، ما رفع الاحتياطي من 37.2 مليار دولار في منتصف أغسطس إلى 38.6 مليار دولار في نهاية الشهر نفسه. وأشاد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بهذه الخطوة، خصوصا أنها ناتجة من تدفق ودائع مباشرة من القطاع الخاص غير المقيم، وليس من دول أو جهات دولية، ما يعكس ثقة المودعين، ويعزز الثقة بالليرة، ويساهم في خفض العجز في ميزان المدفوعات.
ولكن تقارير وكالات التصنيف الدولية تقلل من أهمية الاحتياطي، بعد احتساب التزامات المركزي لصالح المصارف بالعملات الأجنبية والتي قدرتها «فيتش» بـ62 مليار دولار، منها 19 مليار احتياطي إلزامي. وهكذا تبرز النتيجة السلبية كعامل ضغط على النظام المصرفي في حال تسارع طلب سحب هذه الودائع في المستقبل. ولعل الأخطر من ذلك أن وزير المالية السابق الدكتور جورج قرم يرى أن النظام النقدي في لبنان وصل إلى طريق مسدود، لأنه يعتمد سعر صرف ثابت تتعايش فيه عملة محلية ضعيفة مع عملة دولية قوية هي الدولار، الذي تحول تدريجياً ليصبح النقد الأكثر تداولًا. وبطبيعة الحال فإن اختيار النظام النقدي «المزدوج» ولد ريوعاً ومداخيل ناتجة عن ثنائية العملة، وليس عن الجهد الإنتاجي الداخلي، وها هو اليوم يصل إلى مشارف نهاية مؤلمة.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية