قبل بضعة أيام، كانت الجمهورية الفرنسية تعتبر أنه قد حان الوقت للتهدئة مع روسيا، وقد جرى ذلك في ختام المحادثات الوزارية رفيعة المستوى في موسكو، والتي شارك فيها وزير خارجية فرنسا «جان إيف لودريان»، ووزيرة الدفاع الفرنسية «فلورنس بارلي»، بجانب نظيريهما الروسيْين.
علامة الاستفهام في هذا المقام:«هل الأمر فقط يتعلق بالتهدئة، لا سيما في ظل العقوبات الأوروبية الموقعة على روسيا منذ أزمة أوكرانيا أم أن الأمر أعمق من ذلك بكثير؟ قبل الجواب عن السؤال المتقدم ينبغي الإشارة إلى أن عدداً من كبار مفكري ومثقفي الغرب من أمثال فريد زكريا قد أخذوا مؤخرا في الأخطاء التي ارتكبها الغرب في حق الاتحاد السوفييتي، وكيف أن الأفكار التي انطلقوا منها كانت الأساس الذي بنى عليه فلاديمير بوتين توجهاته العدائية ناحية الأميركيين والأوروبيين.
في هذا السياق كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يراجع أوراق فرنسا، ويعلن عن نيته تصحيح الأخطاء وإزالة سوء التفاهم الذي شاب العلاقات الروسية- الأوروبية منذ نهاية الحرب الباردة، مشيراً إلى ما أسماه «الحاجة إلى التفكير من جديد في هندسة أمن القارة»، بالإضافة إلى الإعراب عن نيته عرض «شراكة استراتيجية» مع روسيا.
عن أي شراكة كان ماكرون يتحدث؟ وهل الأمر يعد تغيراً جذريا في خريطة التحالفات الجيوبولتيكية العالمية؟
الشاهد أنه عبر أكثر من سبعة عقود، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدا وكأن حلف الأطلسي بجناحيه الأوروبي والأميركي، أقوى من أي عواصف أو رياح عاتية، وقد كان الاتحاد السوفييتي ممثلا للخطر الأعظم الذي جعل الأوروبيين يقبضون بأسنانهم على الشراكة مع الأميركيين.
غير أنه ومنذ سقوط حائط برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي، فقد «الناتو» بصورة أو بأخرى أهميته الاستراتيجية، فلم يعد هناك مهدد كبير وخطير كما كان الحال في السابق.
على أنه ومع وصول الرئيس الأميركي وعقلية رجل الأعمال الذي يدير دفة السياسة الخارجية الأميركية، شعر الأوروبيون بأنهم قاب قوسين أو أدنى من تحويل تفكيرهم إلى شراكات أخرى، وإنْ لم يصرحوا بالقول مرة واحدة. بدا ترامب ممارساته بمطالبة الأوروبيين بنسب مئوية عالية من الدخل القومي لكل بلد لصالح حلف «الناتو»، معتبراً أن أميركا لن تقدم حماية مجانية للأوروبيين بعد الآن، وفيما ترامب يرتب أوراقه الاقتصادية، كان الأوربيون وعلى الجانب الآخر من الأطلسي يتساءلون عن جدوى الخضوع إلى حد الخنوع لرؤى الرئيس الأميركي، والذي يهمه فقط أن تكون أميركا أولا، وحتى لو كان ذلك على حساب الحلفاء والأصدقاء. وفي هذا السياق استمعنا إلى دعوات بدأت خجولة ثم ما لبثت أن اشتد عودها تمحورت حول فكرة بناء جيش أوروبي موحد، قالوا بداية إنه لن يكون بديلاً عن «الناتو»، غير أن الجميع يدرك أن الطرح يعني في طياته أن يقوم الجانب الأوروبي في المدى الزمني المتوسط والبعيد بترتيب الأوراق التي تسمح للأوروبيين بالاستقلال العسكري عن الأميركيين.
مرة أخرى نعود إلى فرنسا التي شهدت زيارة مثيرة للرئيس الروسي بوتين منذ بضعة أسابيع، وقد بدا فيها أن هناك مشتركات يمكن أن يستهل بها الجانبان الفرنسي والروسي علاقات شراكة عميقة، تخفف من وضع الضغوطات الأوروبية على روسيا الاتحادية، وتفتح المسارات تالياً لتحقيق الحلم الأوراسي الكبير.. ماذا عن تلك المسارات، وما هو الحلم؟
يرى السيد «جان إيف لودريان» وزير خارجية ماكرون أن مكافحة الإرهاب واستكشاف الفضاء من المجالات التي يمكن فيها التعاون مع موسكو، وقد وصف روسيا بالدولة الأوروبية «تاريخياً وجغرافيا»، ووفقا للوزير الفرنسي، فإن عدم التغيير في العلاقات بين الغرب وروسيا سيؤدي إلى تحرك موسكو نحو الشرق، وعدم الثقة في العلاقات مع أوروبا يضر كلا الجانبين، مضيفاً أن باريس تركز على «الانتقال إلى عناصر الثقة».
والثابت أن طرح مثل هذه المسارب للأمل والعمل بين الأوروبيين والروس يعود بنا إلى قصة الحلم الأوراسي، والتي ولدت قبل عقود خلت، وقد كان الزعيم الفرنسي الشهير «شارل ديجول» صاحب الصوت الأعلى في الدعوة للوجود الأوراسي، أي المنادي بقيام اتحاد سياسي وجغرافي بين أوروبا وآسيا، اتحاد تبدأ حدوده من عند المحيط الأطلسي غرباً إلى جبال الأورال شرقا، الأمر الذي يمكن الأوربيين والروس من تخليق تجمع إنساني وتقني يفوق الولايات المتحدة في القوة والقدر والتعداد البشري.
ما الذي يسعى إليه ماكرون بوصفه رئيس فرنسا، أي العقل السياسي الأوروبي، ذلك إن اعتبرنا أن ألمانيا هي القاطرة الاقتصادية المحركة لها؟
أغلب الظن هو أننا أمام خريطة جيواستراتيجية مغايرة لما عرفه العالم في القرن العشرين، فالأوروبيون من جهة لم تعد روابطهم مع الأميركيين بحال من الأحوال كما سبق، ومن ناحية أخرى، فإن هناك مخاوف من الصين وقطبيتها القادمة، وعليه ربما تضحي أوراسيا خياراً مقبولاً من الجميع.
*كاتب مصري