لم تمر بريطانيا بأزمة كبيرة منذ عام 1984 عندما حدثت مواجهات عنيفة بين عمال المناجم ورئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر التي قررت آنذاك إغلاق المناجم بسبب عدم جدواها الاقتصادية، حيث تمكنت المرأة الحديدية بعد أشهر من الصراع من لي ذراع النقابات المؤيدة للعمال المضربين.
الأزمة الحالية الخاصة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المسماة «بريكست» مستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، وهي أخطر وأشد وطأة من الأزمة السابقة، فالمتابع القريب لها يستنتج أن الدولة البريطانية تعيش متاهة عميقة لا تعرف كيفية الخروج منها، بل إنها تتعقد وتزداد متاهة يوماً بعد آخر مخلفة المزيد من الخسائر الاقتصادية والتفكك والانقسام المجتمعي.
الأزمة بدأت، كما هو معروف بعد استفتاء الخروج الذي دعا إليه رئيس الوزراء السابق «ديفيد كاميرون» - ذلك الاستفتاء الذي لا معنى له إطلاقاً - حيث صوتت الأغلبية مع الانفصال، علماً بأن أكثريتهم الساحقة لا تعرف معنى «بريكست»، وأعطت صوتها تحت تأثير الإعلام والسياسيين الطموحين، وهو أحد أمراض الديمقراطيات الحديثة.
متابعة مناقشات مجلس العموم الأسبوع الماضي كانت شائقة ومؤلمة في الوقت نفسه، فرئيس الوزراء خسر ثلاثة تصويتات في يومين، منها عدم الخروج من الاتحاد من دون اتفاق، وهو ما كان يسعى إليه «بوريس جونسون» في 31 أكتوبر القادم، والذي قدم اقتراحاً آخر بالدعوة لانتخابات جديدة فشل في نيل أصوات الثلثين المطلوبة، مما وضعه في زاوية ضيقة، وبالأخص بعدما خسر أغلبيته البرلمانية بعد استقالة اثنين من حزبه أحدهم شقيقه.
التوقعات تشير إلى أن الأزمة ستشتد وستكلف الاقتصاد البريطاني خسائر كبيرة، فـ«جونسون» أضحى مقيداً، فهو لا يستطيع الخروج من دون اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، كما أنه سبق وأن صوّت ضد اتفاق رئيسة الوزراء السابقة «تيريزا ماي» مع الاتحاد الأوروبي، وأرغمها على الاستقالة، وبالتالي، فإنه لا يمكن له أن يتبنى نفس الاتفاق. وبسبب موقفه الضعيف هذا، فإن الاتحاد الأوروبي سوف لن يمنحه أكثر من اتفاق «ماي» السابق، وهو ما لا يمكن أن يوافق عليه «جونسون».
لذلك، هناك مخرجان كلاهما مر، الأول مؤقت من خلال تمديد مفاوضات الخروج، وهو ما سيعمق من الأزمة، وثانيهما الدعوة لاستفتاء جديد، ما يعني ضياع أكثر من ثلاث سنوات من التنمية والنقاشات البيزنطية بين الأطراف المؤيدة والمعارضة. وفي هذه الحالة، إما أن ينجح المؤيدون للخرج مرة أخرى، وهو ما سيبقى المتاهة ويعمقها، وإما أن ينجح المعارضون وتحل المشكلة جذرياً مع تحمل التكاليف الباهظة وتضعضع موقف المملكة المتحدة داخل الاتحاد.
كل هذه المتاهة جانب والخسائر التي تكبدها الاقتصاد البريطاني جانب آخر، فالجنيه الإسترليني في أضعف أوقاته منذ سنوات طويلة، إذ تدنى إلى 1.2 مقابل الدولار، كما غادرت مئات الشركات والمؤسسات بريطانيا، تجنباَ لفقدانها الامتيازات التي تتمتع بها داخل الاتحاد في حالة الخروج وفقد الآلاف وظائفهم، بل إن الكثير من البريطانيين اكتسبوا جنسيات أوروبية للمحافظة على مصالحهم ويجري الحديث الآن عن إمكانية دخول الاقتصاد البريطاني حالة من الركود الطويل إذا ما استمرت الأزمة - كما هو متوقع - حيث تبدو علامات هذا الركود بارزة للعيان لمن يعيش في بريطانيا حالياً.
وعلى افتراض خروج المملكة المتحدة أو بقائها، فإن الضرر قد وقع، ومن خرج من الشركات والمؤسسات لن يرجع بسهولة، أو أنه لن يرجع أبداً بعد أن رتب أموره في مكان آخر، ما سيضعف موقع العاصمة لندن، كمركز مالي، خصوصاً وأن المؤسسات المالية الأوروبية الاتحادية تتمركز فيها، وذلك على الرغم من أن المملكة المتحدة ليست عضواً في العملة الموحدة «اليورو»، وذلك بفضل الإمكانات والمؤهلات العالية التي تتمتع بها بريطانيا.
بالنتيجة لا يبدو أن هناك مخرجاً سريعاً ومريحاً لدوامة «بريكست»، ما يعني استمرار الجدل وتحمل المزيد من الخسائر والتردي الاقتصادي والانقسامات داخل المجتمع وتعمق التعصب، ما يطرح سؤالاً عملياً، هل كانت المملكة المتحدة بحاجة لهذه المتاهة؟ خصوصاً وأنها كانت تتمتع بأوضاع اقتصادية قوية ومجتمع متماسك نسبياً، وتفاؤل كبير بالمستقبل.
*مستشار وخبير اقتصادي