كثيراً ما توصف موجة طالبي اللجوء التي اجتاحت أوروبا في 2015 بأنها غزو من قبل مهاجرين لا مهارات لديهم، هدفهم الاستفادة من أنظمة المساعدة الاجتماعية في البلدان المستقبِلة. غير أن الأبحاث الأخيرة تُظهر بأن هذا ليس صحيحاً. بل إن ألمانيا، التي رحّبت بالمهاجرين وندمت على ذلك بشكل فوري تقريباً، من المرجح أن تستفيد في نهاية المطاف من قرار المستشارة أنجيلا ميركل السماح لهم بدخول ألمانيا إن استمرت في اتخاذ خطوات في اتجاه تيسير طريق المهاجرين إلى العمل.
ففي إطار دراسة نُشرت في وقت سابق من هذا العام، قام جيفات جيراي أكسوي من «البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية»، وبانو بوتفارا من «معهد إيفو– معهد ليبنتز للبحوث الاقتصادية»، باستطلاع آراء مهاجرين من أزمة اللاجئين بشأن الأسباب التي دفعتهم لمغادرة بلدانهم. وقد شكِّلت عيناتهم على نحو يعكس الأنماط الجغرافية والديموغرافية للهجرة عبر المتوسط خلال الأزمة، مثلما رصدتها «منظمة الهجرة الدولية». فاكتشفا أن 77 في المئة من المستجوَبين –وهم من أولئك القادمين من أفغانستان والعراق والصومال والسودان وسوريا– فروا من الحرب والاضطهاد في بلدانهم، بينما جاء الباقون إلى ألمانيا لأسباب اقتصادية، ومعظمهم من الجزائر والمغرب وبعض البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى.
والواقع أن هذا في حد ذاته ليس مفاجئاً؛ ذلك أن معظم مهاجري 2015-2016 كانوا فارين من النزاعات المسلحة. كما توصل أكسوي وبوتفارا إلى خلاصة أكثر إثارة للاهتمام، مفادها أن الأشخاص الأحسن تعليماً هم أكثر ميلاً إلى محاولة الفرار من الحرب والاضطهاد مقارنةً بمواطنيهم الأقل تعليماً. ويشكّل أولئك الفارون من الحرب، وأكثر من المهاجرين الاقتصاديين، مجموعة منتقاة ذاتياً من الأشخاص الذين لديهم مؤهلات وظيفية محترمة. وفي بلدان أفريقيا الشمالية الفقيرة، تُعد العائدات الاقتصادية للتعليم والمهارات عالية بما يكفي للأشخاص حتى يبقوا في بلدانهم بدلاً من أن يقدموا على رحلة محفوفة بالمخاطر إلى أوروبا. أما في العراق والصومال، فإن العمال الذين لديهم أفضل المهارات المهنية هم الذين يعانون أكبر الخسائر نسبياً، ولهذا لديهم أكبر الحوافز للمغادرة.
وعلاوة على ذلك، يميل طالبو اللجوء المتعلمون إلى اختيار بلدان استقبال حيث توجد عائدات أعلى على المهارات، أي البلدان حيث التفاوت الاجتماعي أعلى: إذ يميلون عموماً إلى تفضيل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا على السويد وهولندا والنمسا. أما الأقل مهارة، فيميلون إلى اختيار دول أخرى حيث تكون معالجة طلبات اللجوء أسرع وشبكات السلامة الاجتماعية أفضل.
وبالطبع، فقد لعبت سياسات الهجرة التي تتبعها البلدان الأوروبية دوراً في تحديد الوجهات، لكن نصيب ألمانيا كان، بشكل عام، مجموعة مختارة ذاتياً على نحو إيجابي من المهاجرين غير الشرعيين. وتُظهر إحصائيات الحكومة أن هؤلاء الأشخاص ليسوا يائسين البتة، وما على ألمانيا سوى مواءمة مؤهلاتهم مع احتياجات سوق عملها.
وهذه هي العقبة الرئيسة. فالألمانية واحدة من اللغات الأوروبية التي تصعب إجادتها، كما أن القوانين الحالية للبلاد تعقّد الاعتراف بالدبلومات وشهادات التدريب المهني الصادرة خارج الاتحاد الأوروبي. ففي العام الماضي، مثلاً، تم الاعتراف بـ36 ألفاً و400 شهادة مهنية أجنبية فقط في ألمانيا، ومع أن ذلك يمثّل 20 في المئة أكثر من الرقم المسجل في عام 2017، إلا أنه يُعتبر رقماً مثيراً للضحك بالنظر إلى وضع ألمانيا كبلد استقبال رئيس للمهاجرين (أضافت البلاد 500 ألف إلى سكانها في 2018).
بيد أنه على الرغم من هذا الحاجز الكبير أمام دخول سوق العمل الألماني، فإن اللاجئين ينجحون في إيجاد عمل على نحو متزايد. فوفق وكالة العمل الفدرالية الألمانية، فإن 35 في المئة من اللاجئين الذين وصلوا في عام 2015 كانت لديهم وظائف في أكتوبر 2018، مقارنة مع 20 في المئة قبل سنة واحدة. ووفق الاتحاد العمل الألماني «دي جي بي»، فإن 18 في المئة من اللاجئين الذين لديهم مستوى تعليمي جامعي و45 في المئة ممن لديهم تدريب مهني، يعملون حالياً دون مستوى مهاراتهم، كما أن الرواتب التي يتلقونها تُعد دون المعدل الوطني بشكل عام. بيد أن ذلك يمثّل دليلاً على قوة اللاجئين وصلابتهم على اعتبار أنه بعد ثلاث سنوات فقط على وصولهم، وربما بدون أي معرفة باللغة الألمانية، فإن أكثر من ثلثهم لديه وظائف مأجورة الآن.
وخلاصة القول هي إنه ما على ألمانيا وبلدان أوروبية أخرى سوى بذل جهود أكبر لتسهيل وصول القادمين الجدد إلى سوق العمل. ومن شبه المؤكد أن من شأن عملية أسرع وأوتوماتيكية أكثر للاعتراف بالمؤهلات العلمية والمهنية أن تؤتي ثمارها. فعلى كل حال، الكثير من اللاجئين يأتون على أمل تطبيق مهاراتهم في بلدهم الجديد، ولا شك أن عدم إظهار ثقة في هذه المهارات يمثّل سياسة سيئة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»