قال ماركس: «التاريخ يعيد نفسه مرة بشكل تراجيدي وأخرى بشكل كوميدي». هذا ما شهدناه في فصول العمليات التي تناوبت عليها إسرائيل وحزب إيران في الجنوب اللبناني وفي الضاحية الجنوبية وداخل الخط الأزرق. في البداية كدنا نصدق هذه المقدمات القوية لاحتمال اندلاع حرب بين الحزب وإسرائيل. فإذا كان «الحزب الإلهي» قد بادر بأمر من الملالي بخطف جنديين إسرائيليين من داخل الخط الأزرق عام 2006، وكان الرد الصهيوني همجياً على لبنان وأوقع 1500 قتيل ونحو 3000 جريح ودمر معظم البنية التحتية من جسور وطرق ومصانع ومحطات كهربائية وقرى ومدن في الجنوب وسائر المناطق اللبنانية، فالآية انعكست هذه المرة. ها هو نتنياهو يأخذ المبادرة ويرسل طائرتي درون إلى الضاحية الجنوبية معقل الحزب، طائرتين أشبه بدميتين: واحدة انفجرت والأخرى بقيت على حالها من دون وقوع ضحايا. حتى الآن لم تعلن إسرائيل بوضوح مسؤولياتها عن هذه العملية. والأطرف أن لا أحد حتى الآن لا الحزب ولا الخبراء عرفوا من أين جاءت ولا كيف جاءت الطائرتان.
ولكن قد يكون تأكد بعد ذلك أنهما مرسلتان من العدو الإسرائيلي. هنا أطل الأمين العام حسن نصر الله، وألقى خطاباً نارياً متهماً العدو بأنه غيّر قواعد الاشتباك المتفق عليه. فيا للهول. أرعب خطاب «نصر الله» الناس في لبنان: ماذا لو رد الحزب بعنف على إسرائيل كما هدد حسن نصر الله، فهل يعني ذلك رداً إسرائيلياً مدمراً كما في عام 2006.
انتظر الناس متخوفين. وها هو الحزب يرد (وليته لم يرد): أطلق رمايات صاروخية على ثكنة مهجورة. والنتيجة لا ضحايا ولا حتى خسائر تذكر (تماماً كالعملية الإسرائيلية). استنفرت إسرائيل الجيش على الحدود، وأخلت سكان الحدود أربعة كيلومترات، وأمرت بالنزول إلى الملاجئ. أربعة كيلومترات فقط؟ ولا ضحايا في الجانبين؟ قلنا فلننتظر نتنياهو: مهد لعمليته -كنصرالله- بتصريح ناري: «سنعيد لبنان إلى العصر الحجري». لحظة روّعت اللبنانيين، فهذا الرجل مجنون، لكنه بدأ بعد ما رد على الرد بقصف حِرش خالٍ من السكان في الجنوب بقرية «بنت جبيل».
لم تصب أحداً. عندها بالذات استدرك من يعرفون الحزب ونتنياهو واسترجعوا ما وراء التصريحات السابقة: فنتنياهو لا يريد الحرب، وكذلك نصر الله. وأن كل شيء سيكون مدروساً ودقيقاً في هذه العمليات. وفسر كثيرون عبارات الرجلين بأن وراء الأكمة ما وراءها. فهل تعني عبارتا «مدروسة ودقيقة» التزام نصوص مسرحية لا يخرج أحد منها على النصوص المكتوبة والمقررة؟ وهل كانت فعلاً مسرحية؟ ما نوعها؟ درامية أم كوميدية؟ بل راحت التفسيرات أبعد من ذلك هذه المرة، هل باتت إيران نفسها ضرورة أساسية لإسرائيل، وكذلك إسرائيل لإيران؟ بمعنى العداء الثنائي الحنون والمنسجم يوظف هنا أو هناك عند الحاجة؟ أيسمى ذلك تناغماً، أو لقاء الضدين والعدوين؟ أو كما يحدث في لعبة التنس «سند لي لاسند لك»: فنتنياهو المهدد بالسقوط في الانتخابات يحتاج بالضرورة إلى مثل هذه الحرب الافتراضية ومن يلبيه فيها من الطرف الآخر، وهكذا نصر الله بعد عودته من سوريا خالي الوفاض: فهذا «الديو» (الثنائي) لعب في مسرحية واحدة مُكررة: فإذا كانت حرب 2006 تراجيدية فهذه الواقعة بدت اليوم هزلية. كل عناوينها هزلية: لا حرب، لا تفاوض.. مجرد احتكاكات مدروسة ودقيقة ومتفق عليها.
لكن يُراد لهذه اللعبة ألا تنتهي: في الواقع لا إسرائيل ولا إيران تريدان قوات أممية في الجنوب: فالطيران الإسرائيلي اخترق الجو اللبناني عشرات المرات. وهذا ما فعله الحزب في نشر مسلحيه على الليطاني وحفر أنفاق إلى ما بعد الخط الأزرق: فالاثنان درجا على تعطيل دور اليونيفيل. والآن يريدان أن يحولا 1701 إلى قرارٍ أقل من شكلي. من هنا نفهم تصريحات حسن نصر الله الأخيرة «انتصرنا بإلغاء الخطوط الحمر». وفسرها بإلغاء 1701: إنها أمنيته الكامنة لكنها أيضاً أمنية إسرائيل. هل أتى كل ذلك من نصوص المسرحية المدروسة والدقيقة أو فلنقل ما بعد فصلها الأول لأنها تحتوي على ما يبدو فصولاً كثيرة بالأدوار ذاتها والحوارات ذاتها. فنتنياهو ربح من خلال عمليته بعض الأصوات الانتخابية، وحسن نصر الله أعلن بكل وضوح سيطرته التامة على قرار الحرب والسلم في لبنان، وكذلك لبى أمر أوليائه الإيرانيين بتصعيد اللهجة قبيل التفاوض المحتمل مع أميركا.
*كاتب لبناني