تشهد بريطانيا إحدى أهم المعارك السياسية في ديموقراطيتها العريقة، ومع بوريس جونسون تبدو الإثارة مؤمّنة ومضمونة، فهو «ترامبي» على طريقته، ولكن مع تغريدات أقلّ على «تويتر» وخطابات صاخبة ومبادرات صادمة. وعندما نال تأييد أكثر من ثلثي المنتسبين إلى حزب «المحافظين» ليصبح زعيمهم وبالتالي رئيساً للوزراء، بدا من شأنه أن يظن أنه يتمتع بشعبية جارفة و«فترة سماح» تقليدية لأي حكومة جديدة، لكنه لم يحسن قراءة تحوّلات الخريطة السياسية وأخطأ في التقدير، إذ اعتبر أن اكتساح اليمين المتطرّف نتائج الانتخابات الأوروبية في مايو الماضي ممهّداً لصعوده إلى المنصب، باعتباره الأقرب إلى هذا التيار في صفوف «المحافظين»، والأقدر على استعادة الناخبين إليه، ثم إن الملل من محاولات مستميتة بذلتها «تيريزا ماي» عبثاً لتمرير اتفاقها مع الأوروبيين على خروج منظّم من الاتحاد عزّزت فكرة استبدالها برئيس وزراء «قوي» غير أن انقسامات المحافظين سرعان ما عادت إلى الظهور بعدما كانت أهلكت حكومة «ماي» وأفشلتها وأدّت إلى استقالتها القسرية.
لم يمهل جونسون «المتمرّدين» في حزبه طويلاً فأقدم على طرد واحد وعشرين منهم، ما دفع نائباً آخر للانتقال إلى حزب «الأحرار الديموقراطيين» الوسطي، متسبباً بخسارة «المحافظين» الغالبية التي تغطي الائتلاف الحكومي. تلقائياً أصبح رئيس الوزراء مضطرّاً للسعي إلى انتخابات مبكّرة، معتمداً أولاً على ما أشاعه من زخم سياسي وتعجّل للحسم في مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وثانياً على برنامج استثنائي للإنفاق في قطاعات الصحة والتعليم والنقل والأمن، أي في كل ما يهم المواطن العادي. لكن طلبه تعليق عمل البرلمان لمدة خمسة أسابيع وفي فترة حساسة وبخطة مكشوفة هدفها منع النقاش، كان خطأ سياسياً ظهرت نتائجه سريعاً عندما ردّ البرلمان بالتصويت على قانون يمنع «بريكست» من دون اتفاق ورفض قانون يتيح الانتخابات المبكّرة. لم يكن تعليق البرلمان إجراءً غير دستوري، ثم إن حصوله بموافقة الملكة حال دون قبول محكمتين اسكتلندية ولندنية قبول الطعن به، لكن التوقيت والمدة والدوافع والأهداف أثارت استياءً حتى لدى العديد من «المحافظين».
كان مُتوقعاً أن يتصدّى مجلس العموم لاندفاع جونسون إلى «بريكست» من دون اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، لكن الظروف كانت مساعدة لتمريره قبل أن يفسدها «جونسون» بطلبه تعليق البرلمان وتفجيره نقاشاً لا داعي له حول المخاطر على الديمقراطية. هذا لا يعني أنها خطوة شعبية، فالمجتمع منقسم في شأنها، وزاد انقسامه بعدما نشرت «الصنداي تايمز» قائمة طويلة جداً من المحاذير التجارية التي تمس حياة الناس وحاجاتها الأساسية المهدّدة بالانقطاع لفترة غير محدّدة، وفيها أدوية وأغذية ومواد شتى سيتعرض توفّرها للاضطراب. وقبل ذلك كان بنك إنجلترا ومؤسسات مالية واقتصادية أصدرت تقديرات مفادها أن «بريكست» سيتسبب بركود اقتصادي وانعكاسات سلبية لفترة غير قصيرة، وأن هذه الانعكاسات ستكون مضاعفة في حال «بريكست» من دون اتفاق. ومع أن هذه التوقعات لم تتغير على مرّ الأعوام الثلاثة منذ استفتاء يونيو 2016 إلا أن أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي دأبوا على رفضها وتخطئتها. ذاك أن مجموعات ذات مصالح تراهن على خيار الخروج وتستعدّ للاستثمار فيه على المدى الطويل.
في غضون أيام راكم جونسون خسائر سياسية ستضطرّه لمراجعة خططه، وحتى لو لم يعترف بأن أسلوبه لا يعمل ولن يأتي بالنتائج التي يتوخّاها فإنه لن يتمكّن واقعياً من تفعيل خططه. ومن ذلك مثلاً أن القانون الذي يمنع «بريكست» بلا اتفاق جعل تعليق البرلمان بلا معنى، وضاعف صعوبة الخروج في الموعد المحدّد (31 أكتوبر المقبل). كان أحد المعلقين كتب أن على جونسون أن يفي بوعده الخروج في الهالوين وإلا فإن حكومته ستسقط بحلول عيد الميلاد. ربما لا تزال لديه بدائل كثيرة لكنه لا يتحكّم بها وليست متاحةً له في الوقت المناسب. فمنها مثلاً الاتفاق التجاري مع الولايات المتحدة لكنه لن يحصل عليه سريعاً لتعويض خسارة بريطانيا الأسواق الأوروبية. ومنها أيضاً إمكان إسقاط البند المتعلّق بالحدود بين مقاطعة أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا ليصبح الاتفاق الحالي مع الاتحاد الأوروبي قابلاً للتنفيذ في الموعد المحدد، لكنه خيار لا يخلو من مجازفة داخلية. ومنها أخيراً الانتخابات المبكرة كي يحصل جونسون على غالبية مريحة لـ«المحافظين»، لكنه قد يغامر عندئذ بتكرار خطأ «تيريزا ماي»، فالنتيجة قد تأتي مخيبة للآمال.