تجمع معركة البركسيت البرلمان والحكومة في بريطانيا، لكنها أخذت تغيّر بشكل جوهري «دستور» البلاد. فبينما يتواصل المأزق بين جهازٍ تنفيذي مصمم على أن تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر باتفاق أو بدونه، وبرلمان يبدو غير مستعد للسماح بحدوث بركسيت من دون اتفاق، تتزايد الخشية من أن تكون بريطانيا متجهة نحو أزمة دستورية. ومع اقتراب ذاك الموعد، وتنصيب حكومة جديدة يقودها بوريس جونسون، بات دستور البلاد غير المكتوب يبدو الآن مثل «أضرار جانبية» في رهان القوة الحالي بين الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي.
الدستور البريطاني عبارة عن خليط من القوانين والاتفاقيات والقرارات القضائية والمبادئ، بعضها مكتوب وبعضها غير مكتوب. لكن العديد من الجوانب الأكثر جوهرية والأكثر تعقيداً باتت اليوم جزءاً من الصراع حول من يتحكم في مستقبل بركسيت.
البرلمان عاد الثلاثاء بعد عطلة صيفية طويلة. والأسبوع الماضي، أعلنت الحكومة أنها طلبت من الملكة إيليزابيث الثانية «إرجاء» أو تعليق البرلمان لأربعة أو خمسة أسابيع. وتقول الحكومة إنها تستخدم فقط ما يُعتبر آلية عادية لإنهاء دورة برلمانية وبدء دورة جديدة؛ وهكذا سمحت الحكومة لنفسها بخطاب من الملكة، وهو الوسيلة التقليدية التي يعلن بواسطتها رؤساء الوزراء سياساتهم وتشريعاتهم المقترحة لدورة جديدة.
المشكلة هي أنه لا يفصلنا عن موعد بركسيت سوى أقل من شهرين، حتى في حال لم يتم الاتفاق على بنود الخروج أو العلاقة المستقبلية بين بريطانيا وأوروبا. ومعظم البرلمان يبدو معارضاً للخروج من دون اتفاق، وكان يَتوقع فرصاً لمحاولة إرغام الحكومة على السعي وراء تمديد آخر. لكن تعليق البرلمان يقلّص فرصهم بشكل كبير لأنه لا يترك وقتاً لمرور أي مقترحات بديلة.
وفي الأثناء، يتوقع أن يدفع النواب المتمردون داخل «حزب المحافظين» الحاكم بتشريع جديد لتأخير بركسيت مجدداً، لكن جونسون هدد بأن أي برلماني محافظ يصوّت ضد الحكومة لن يُسمح له بالترشح على قائمة الحزب في الانتخابات المقبلة، بل سعى وراء انتخابات مبكرة قبل تاريخ 31 أكتوبر.
بيد أن المعركة أضرت أكثر بالدستور البريطاني وبالطريقة التي يُنظر بها إليه. ذلك أن المعركة حول الخطوة التي أقدم عليها جونسون قوّت دور المحاكم في القضايا الدستورية التي كانت في السابق تُترك للساسة فحسب. ففي المحاكم هناك حالياً محاولات للطعن في قرار التعليق، تركز معظمها على النصيحة التي قدّمها جونسون للملكة وما إن كانت شرعية. والواقع أن المحاكم لا تتدخل عادة في مثل هذه المجالات؛ كما أن العديد من الخبراء القانونيين يشككون في إمكانية نجاح تلك المحاولات. لكن ذلك، على أي حال، يقوّي الدعوات لتوضيح مزيد من الدستور البريطاني أو تغييره من خلال تشريعات، بما في ذلك دور الملكة.
وبالتالي، فإن التعليق غير المألوف يهدّد أيضاً بإضعاف نظام الملكية الدستورية البريطانية؛ ففي الدستور البريطاني غير المكتوب مبدأ ينص على ضرورة عدم جرّ الملكة إلى التجاذبات والصراعات السياسية، وحفاظها - بدلاً من ذلك - على دور محايد. وقد التزمت الملكة شخصياً، وعن تصميم ووعي، بهذا الموقف خلال معظم حكمها. إذ تمارس العديدَ من صلاحياتها المتبقية كرمز يكتفي بتنفيذ نصائح وزرائها، وهي الصلاحيات التنفيذية للحكومة. وبالتالي، فإن دورها يعتمد على ألا يسيء الوزراء استخدام تلك الصلاحيات، وعلى ألا يطلبوا منها القيام بأشياء مثيرة للجدل دستورياً. والواقع أن طلب تعليق البرلمان كان جائزاً قانونياً؛ وكان سيكون من المثير للجدل أن ترفض الملكة الطلب. لكن ثمة سيناريوهات ممكنة أخرى يمكن أن تُجرّ فيها الملكة إلى اختيارات أكثر صعوبة، وحيث يمكن أن تذهب عكس وزرائها. وهذا شيء كان سيبدو عصياً على التخيل قبل أشهر فقط.
وخلاصة القول، هي أن بريطانيا تبدو متجهة نحو أمّ الأزمات الدستورية، مما قد يُظهر عيوباً في الدستور تأخر إصلاحها كثيراً. غير أن إعادة كتابة الدستور وسط معركة كبيرة بين المؤسستين الأساسيتين اللتين توجدان في قلبها، أمر ينطوي على مخاطرة كبيرة، على غرار محاولة إيجاد حلول من دون التفكير في المصالح طويلة المدى. وبغض النظر عن نتيجة بركسيت، فإن بريطانيا تحتاج لتقييم تأخر كثيراً حول كيفية اشتغال دستورها وما ينبغي تغييره فيه.
كاثرين هادون
باحثة متخصصة في الشأن السياسي البريطاني وزميلة «معهد الحكومة» في لندن
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»