لم يكن حي الرويس بجدة، حيث مسقط رأس الدكتور سعيد بن مصلح السريحي، أستاذ الأدب السعودي، يعلم أن تاريخ ولادة صاحبنا البيولوجية، في العام 1953، ستكون بداية لأحداث عاصفة، تشهدها مسيرة أديبنا الكبير، أو أن هذا الفتى سيمر عليه من نوادر الذكريات، وجدل التناقضات ما يمكن أن يملأ المجلدات.
وحين ألف السريحي، روايته: «الرويس»، حمّلها كل ذكريات العمر، حتى لكأنك تراه يمشي في أزقة الحي، يستنطق حكايا السنين، عابراً إلى الأمس، حيث البداوة الحائرة، أمام حضارة لم تفطم بعد، فقال في افتتاح الرواية: «سقطنا بين مرحلتين، سقطنا بين بداوة تموت، وحضارة لم تولد بعد، بين بداوة لم نعد نعرفها، وحضارة لم تعترف بنا، هكذا نحن أبناء الرويس، آباؤنا أولئك الذين فروا من جدب القرى ووحشة الصحارى وبؤس السواحل، لم يجدوا في قلب المدينة متسعاً لهم فاستوطنوا الهامش، دنو المحتاج إليها والمرتاب فيها، لا تغنيهم ولا يستغنون عنها، بينهم وبينها سور له باب، وبينهم وبين قراهم أرضٍ يباب، عاشوا على هامش القرية، هامش مدينة لم يعرفوها وهامش قرية لم تعد تعرفهم?.«
رأى صاحبنا، البداوة بصرامتها، والحياة بمرارتها، فمن ذلك روايته قصة حرق يد والده مصلح، يوم كان ابن ست سنوات، عمداً، بغية تعليمه!
يقول للزميل مفيد النويصر، في برنامج «من الصفر» إن والده حضر وليمة أقامها خاله، وحين أراد تصدر الفتى (الأب) لخدمة الضيوف بتقديم القهوة، ابتدر الدلة بيمناه، والفنجان بيسراه، (خلافاً لعادة تقديم القهوة العربية في الجزيرة العربية، إذ يجب تقديم الفنجان للضيوف باليمنى تكريماً لهم)، فما كان من خاله إلا أن غمس يد الصبي في النار التي تُغلى بها القهوة!
والدة سعيد كانت أمية، لكن شغفها بالعلم، دفعها لتعليمه القراءة والكتابة، أما جدته، فقد أدركها الفتى، وعمرها يوشك أن يبلغ المائة عام! فقدت أبناءها العشرة، وفوقهم فقدت بصرها، ومع ذلك كانت تخاطب حفيدها، دوماً مبتسمة، لتهديه خيالها وحكاياتها?.??
واجه سعيد الدنيا، دون أن ينسى لحظة، حرق يد والده التي غُمست بالنار، فكانت سبباً لصبر وجلد وترحل ومواجهات! لم تخل حياة أديبنا الكبير يوماً من الصراع، وإذ كانت الصعاب تختاره، فهو لم يدر لها يوماً ظهره، بل واجهها باقتدار.
هل اختار سعيد السريحي، أن يكون أحد رواد مدرسة الحداثة الأدبية في السعودية، هرباً من قسوة القديم؟! من يدري؟! لكن هذا الخيار، جعل صاحبنا أحد أهم وجوه الحداثة العربية، وضمن الأدباء الرواد، ووضعه في وجه المدفع.
جنون «الصحوة الإسلامية»، الذي اجتاح الأقسام الأكاديمية بالجامعات السعودية، تسبب بحرمانه من شهادة الدكتوراه، فبعد أن ناقش الأطروحة، ومنحته اللجنة العلمية اللقب، قررت الجامعة سحب الشهادة، لأن توجه حاملها لا ترتضيه أمواج الصحوة وتوجهات عرابيها!
تبدو القصة، أشبه بالخيال، ورغم ألمها الظاهر، لم تعن الشهادة للسريحي شيئاً، فبادرهم بالاستغناء عنها، ولم يعد يستخدم اللقب، بل بات ينهى من يقدمه به!
ماذا سيقدم حرف الدال، قبيل الاسم، لقامة مثل سعيد السريحي؟ رسالة السريحي للدكتوراه، كان عنوانها: (التجديد في اللغة الشعرية عند المحدثين في العصر العباسي)، وبتسامٍ لا يمارسه إلا الكبار، اعتبر سحب الشهادة منه، قبل ثلاثة عقود، لا يخصه وحده، فهو جزء من مجتمع مسه كله، ظلم «الصحوة»، وسطوتها وهياج ممارسة أربابها للسلطة!
السريحي، يأتي ضمن جيلٍ من كبار الأدباء المؤثرين على الحركة الأدبية والنقدية، وصناع التحولات الفكرية، فهو لم يغب عن الساحة، وهرب من الأكاديمية الأدبية، إلى الصحافة الأدبية، فأشرف لعقود على الصفحات الثقافية في جريدة (عكاظ)، وكتب بها زاوية صحفية دائمة، وقدم نتاجاً فكرياً ثرياً، في مجموعة مؤلفات، تناولت شعر أبي تمام، وحركة اللغة الشعرية، ودرست العشق والجنون: دولة العقل وسلطان الهوى في الثقافة العربية. وكتب السريحي مؤلفاً مهماً عن رفيق دربه ومعاركه الحداثية، الشاعر السعودي الراحل، محمد الثبيتي، عنوانه: «عتبات التهجي قراءة أولى في تجربة الثبيتي الشعرية».?
كان لإدراك السريحي المبكر تناقضات الحياة، وقلقه الدائر بين البداوة الموشكة على الزوال، والحاضرة الوليدة، أكبر الأثر على إنتاجه الأدبي والنقدي والفني، وتغيرات كهذه جذوة تشعل نار الإبداع التميز عالمياً.. يبقى سعيد السريحي، المبدع والأديب والشاعر، رمزاً من رموز العطاء، وواحداً من صُناع التحول في الساحة الفكرية العربية، ما يؤهله أن يكون رمزاً سعودياً مميزاً، وباحثاً معرفياً، ستعرف أجيال المستقبل قيمته الفكرية، وعسى ألا يتردد صوته منشداً: سيذكرني قومي إذا جدّ جدهم...
*سفير المملكة في الإمارات