عندما يفوض الإنسان الآلة بالعمل الفكري والذهني وحتى الترفيه، هل سيكون هو نفسه الإنسان الذي نعرفه اليوم أم سيتغير وإلى أين يمضي بنفسه والعالم؟ لقد أسست الآلة البخارية نسقاً تقنياً صناعياً هو العالم الحديث الذي نعيشه، والمختلف بفارق كبير عمّا قبل الصناعة، فما النسق الذي تقودنا إليه «الرقمنة» أو الحوسبة؟ وبرغم أنه نسق قيد الإعداد ولم يتشكل بعد على نحو واضح، فإن أبعاداً تطبيقية بدأت تتشكل فعلاً، كما أن المستقبل بدأ يكشف عن نفسه ولو قليلاً وكما قضت المكننة الصناعية على التشغيل الزراعي، فإن الحوسبة تقضي على التشغيل الصناعي، وبدأ العمل يأخذ اتجاهات وتطبيقات واضحة، إذ تنحسر مهن وأعمال وتتغير أخرى، وتنشأ أعمال ووظائف ومهن جديدة لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة. وكما نشأ فارق كبير في التشكيل الاجتماعي والقيادي وفي وعي الذات بين إنسان الزراعة وإنسان الصناعة، فإن إنسان الرقمنة ينشئ (لا بد أن ينشئ) وعياً جديداً لذاته، ومعنى جديداً لوجوده.
إن القيمة العظمى للمنتجات المتداولة اليوم تكمن في فكرتها وتصميمها، ولا تمثل كلفة الإنتاج المادي نسبة تذكر في قيمتها النهائية، وبطبيعة الحال يتقدم المصمم والمفكر والمبدع، هكذا أيضاً تصعد الفلسفة والفنون والآداب باعتبارها البيئة الحاضنة للإبداع والخيال والتصميم والتفكير النقدي، وتصعد الفردانية كقيمة عليا تحل محل المجتمعية، ويصبح الفرد لا المجتمع هو ضامن القيم والأخلاق، ويعمل التنظيم الاجتماعي والأخلاقي في ظل ومن خلال ثقافة شبكية مفتوحة لا تخضع لمجتمع ولا لمؤسسة، وتسود قيم الثقة والإتقان كمرجعية عامة وعليا تحكم علاقات الناس ومصالحهم.
وفي هذه العمليات الذكية والقادرة ذاتياً على تسيير نفسها من غير تدخل إنساني، لم تعد معظم الأعمال والوظائف والمهن التي نعرفها اليوم ضرورية، والحال أن أزمة التشغيل التي نعيشها اليوم ليست متصلة بالسياسات الاقتصادية أو بأزمة قطاع إنتاجي، لكنها أزمة بنيوية ونسقية وعامة، ولا نعرف بعد إلا قليلاً من الأعمال الجديدة المتولدة، لكننا ندرك نهاية الأعمال القائمة، ما يحدث اليوم هو نمو اقتصادي من غير نمو في الوظائف والأعمال، إنه ليس اقتصاداً تشغيلياً، وربما نتخلى عن معيار التشغيل والوظائف المستحدثة للمشاريع والقطاعات والاستثمارات، وربما لن يعود العمل بشكله الحالي يملك الأهمية والمعنى ذاتهما اليوم، فالأعمال ستكون قليلة وغير منظمة، لكن ستصعد أعمال أخرى كثيرة ذاتية، بعضها كان سائداً في مرحلة الزراعة وما قبلها وبعضها جديد وناشئ، لكنها تدور حول فكرة الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه، ويداوي نفسه بنفسه، ويعلم نفسه بنفسه، إذ سيكون في مقدور الإنسان، مستعيناً بالمعارف والتكنولوجيات الحديثة والمتقدمة والذاتية، أن ينشئ لنفسه معظم احتياجاتها الأساسية في الغذاء والدواء والسكن والملبس، ولن يحتاج لشراء السلع والخدمات على نحو ما يجري في عالم اليوم، وقد تزدهر المقايضة، مقايضة السلع والخدمات مستخدمة الشبكة وفرصها في التفاعل والتبادل بين الناس، وتنحسر النقود بمعنى السندات والأوراق، لكنها ستكون أرصدة جديدة من الثقة والسلع والخدمات والمعارف والمهارات، وهو معنى للمال والثروة أكثر منطقية وأقرب إلى الحقيقة والواقع من ترميزه بأوراق نقدية ومستندات حكومية، هكذا وبطبيعة الحال فإن التنظيم الاجتماعي والسياسي للأمم ينتقل من «الدولتية» إلى «المدينية» لأن عالم الناس ومواردهم وأعمالهم سيكون قائماً في دائرة صغيرة من الناس والأمكنة، وسيكون في مقدورهم ضمن هذه الدائرة إدارة وتنظيم معظم، إنْ لم يكن جميع، احتياجاتهم وخدماتهم، ستكون الدولة مؤسسة تنسيقية أو مظلة للمدن والمجتمعات، كما كان الحال قبل نشوء الدولة المركزية الحديثة.
وفي هذه القدرات الواسعة للأفراد وفرص العمل والتنظيم الجماعي والشبكي للخدمات والاحتياجات تصعد المساواة بين الناس لتقترب من المطلقية، ففي مقدور الناس جميعاً أن يتواصلوا جميعاً ويفكروا ويقرروا ويصوتوا ويتخذوا القرارات من غير حاجة لمكان أو تنظيم مؤسسي، المؤسسات نفسها تأخذ أبعاداً شبكية ولا تحتاج أن تكون قائمة مادياً في مبنى أو مكان، بل إن معنى المكان نفسه يتغير، إذ تكون الشبكة نفسها مكاناً أيضاً.
لكن ماذا سيحدث في ظل قدرة الآلات على التواصل فيما بينها أو مع الشبكة والتنسيق والعمل من غير حاجة لدور إنساني؟ وحين يكون في مقدورها اتخاذ قرارات من غير إذن الإنسان أو الحاجة إليه؟ ثم إذا تجاوزت الإنسان نفسه أو منعته من فعل شيء أو ألزمته بفعل شيء؟ إلى أي حد سيكون في مقدور الإنسان استمرار ولايته وسيادته على الآلات؟ هل ستصبح شريكة للإنسان؟ هل ستنافسه؟ هل ستملكه أو تسيطر عيه؟ هل سيكون في مقدور الآلة أو الإنسان أتمتة المشاعر والعواطف والأفكار والتداعيات والمعتقدات؟ وفي تلك الحالة هل ستنشأ علاقات عاطفية بين الآلة والإنسان؟
*كاتب وباحث أردني