لا غضاضة من أن نعيد ونكرر أن الحراك الشبابي الراهن ضد الاحتلال (الذي «يقوده» جيل ما بعد اتفاقات أوسلو) يدرك داخلياً أنه عامل أساسي في خلق أي تغيير سياسي، وأنهم (أي الشباب) حملة الحرية الحقيقية، وبهم يتم السعي نحو التحرير والبناء، وهو الدور الذي باشر به جيل سبقهم. وفي الأسابيع الأخيرة، تصاعدت العمليات المسلحة «الفردية» التي تستهدف قوات الاحتلال والمستوطنين، سواء في الضفة الغربية أو عبر قطاع غزة، ما أثار التساؤلات حول دوافعها، وإن كانت موجة عابرة أم حالة متنامية؟
تقريران أمنيان صدرا الأسبوع الماضي، الأول عن أجهزة الأمن الإسرائيلية والثاني عن نظيرتها الفلسطينية، يحذر كلاهما من هبّة فلسطينية في الضفة الغربية. في التقرير الأول قدرت قيادة أجهزة الأمن الإسرائيلية أن ثمة احتمالا كبيراً لاندلاع هبّة فلسطينية، وربما قبل انتخابات الكنيست، معللة الأمر بأن «السلطة الفلسطينية تواجه أزمة اقتصادية شديدة، في أعقاب القرار الإسرائيلي خصم مخصصات الأسرى وعائلات الشهداء من أموال الضرائب التي تحول للسلطة الفلسطينية شهرياً، وإصرار رئيس السلطة على عدم تلقيها منقوصةً». وهي الأزمة التي انتهت بأسلوب غير مباشر الأسبوع الماضي، لكنها كانت قد أدت إلى تلقي قرابة 160 ألف موظف في السلطة، بينهم حوالي 65 ألفاً من أفراد أجهزة الأمن الفلسطينية، نصف رواتبهم على مدار الأشهر الستة الأخيرة. ثم تطرق التقرير الأمني الإسرائيلي لعدد من الأسباب المحفزة على اندلاع سلسلة عمليات مسلحة في الضفة، كان على رأسها، كما جاء في التقرير، «الوضع الاقتصادي المتردي، والاستلهام من مسيرات العودة في غزة، وتأثير مساعي التهدئة في غزة على الوضع. فالشارع في الضفة يرى أن الهدوء الذي تنتهجه السلطة لم يعد عليها بأي مكسب سياسي خلال العقد الأخير». وخلص التقرير إلى أن «اشتراك أبناء موظفي السلطة والأمن الفلسطيني في أعمال المقاومة نتيجة التضييق الاقتصادي الذي تمارسه إسرائيل بحقهم، يعني وجود رغبة من أجل تغيير الوضع القائم تجاه إسرائيل، بما في ذلك داخل حركة (فتح) التي بدأت تتعالى أصوات بداخلها من أجل العودة للكفاح المسلح».
وفي التقرير الثاني، حذّرت الأجهزة الأمنية الفلسطينية من «تدهور أكبر للوضع الأمني في الضفة، وصولاً لاحتمال اندلاع انتفاضة شاملة، في ظل الجمود السياسي الحالي والضغط الاقتصادي المتواصل». وقد ركز التقرير على الجيل الشاب بين 16 و25 عاماً، باعتباره «يعاني من ضغوط كبيرة، إلى جانب فقدان فرص العمل، ما يعزز الخشية على مستقبله، وأنه ثمة خطورة كبيرة من تحويل الشباب هذا الغضب إلى عمليات». واستند التقرير إلى شهادات من الشارع، وماذا يكتب الشبان على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب إفادات خلال التحقيق مع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
وفي السياق ذاته، وحسب المحلل العسكري في صحيفة «هآرتس» (عاموس هرئيل) فإن: «المؤشرات على انعدام الهدوء آخذة بالتراكم. ففي الأسابيع الأخيرة طرأ ارتفاع ملحوظ في عدد العمليات ومحاولات تنفيذ عمليات». وحول أسباب تصاعد التوتر في الضفة، أشار «هرئيل» إلى أن «جزءا من الخطاب الفلسطيني، الداعم للمقاومة، يتعلق بالتوتر في الحرم القدسي وقرار الاحتلال بصعود يهود إلى الجبل (أي موقع الحرم القدسي) في التاسع من آب (العبري)، الذي تصادف هذا العام مع حلول عيد الأضحى». وأضاف هرئيل سبباً آخر هو «التكهنات الكثيرة حول بادرة أخرى من إدارة الرئيس ترامب لنتنياهو، عشية الانتخابات، قد تشمل اعترافاً أميركياً مبطناً أو معلناً بضم مناطق (ج) لإسرائيل». وختم هرئيل: «ما يحدث في الضفة يتأثر طوال الوقت بالتطورات في القطاع». وفي مقال لاحق قال هرئيل: «الضفة الغربية، وبدرجة ما شرقي القدس، تشتعل في الأسابيع الأخيرة».
كذلك، حذّرت بعض مراكز الأبحاث من أن الدلائل تشير إلى اندلاع موجة جديدة في الضفة على غرار أحداث 2015، والتي أطلقت عليها إسرائيل «انتفاضة الأفراد». ووفقاً لتقرير صحيفة «معاريف»، نقلا عن مراكز أبحاث، «هناك عدد غير قليل من الخصائص المتشابهة للعمليات الأخيرة مع العمليات التي نفذها شبان وفتية في 2015، حيث ليس لمنفذيها هوية تنظيمية ودوافعهم فردية، خاصة أن سلوك السلطة الفلسطينية و(حماس) بالتحديد ضد التصعيد والذي قد يؤدي إلى نشوب حرب تنهي وجودهما». وتضيف الصحيفة: «شباب غزة الذين هم على استعداد لتنفيذ عمليات على الحدود، كذلك في الضفة حيث الأوضاع الاقتصادية الصعبة، تجعل الشبان ينفذون عمليات طعن قد تعود بقوة كما حصل في 2015. هذه مؤشرات قد تقود إلى انتفاضة تشبه الانتفاضة الأولى عام 1987 بعفويتها، مما فاجأ إسرائيل ولم تستطع إيقافها». وختمت الصحيفة بالقول: «غزة والضفة براكين تغلي».
أما الكاتب الإسرائيلي «يوآف ليمور» فكتب يقول: «لا يمكن تجاهل الارتفاع في حجم (العنف) ومستواه: عمليتان في (غوش عصيون)، عملية طعن في القدس، والآن العملية في النبع، وإلى جانبها عدد لا يحصى من الإحباطات.. هذه تدل على دافعية عالية تتعاظم على خلفية العمليات الناجحة الأخيرة».
نعم، العمليات المسلحة الفردية، وإن شئتم «غير المنظمة»، انعكاس طبيعي لغياب الأفق الاقتصادي والسياسي. ثم إن استمرار السياسات الإسرائيلية الحالية يعني تطور هذه العمليات «غير المنظمة»، فالسياسات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الداعمة للاستيطان ستتسبب لا محالة في استمرار تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والإنسانية في الضفة، وبالطبع في غزة أيضاً، ما يؤدي لحالة أوسع من «الفلتان» والفراغ الأمني تشكل تهديداً حقيقياً لإسرائيل.