مايزال مئات الآلاف من السوريين المهجرين قسراً إلى إدلب منتشرين في عراء حقول الزيتون، حيث تلتئم الأسر المشردة تحت أشجار لجؤوا إليها دون خيام منذ أن احتدمت المعارك في ريف حماه وهؤلاء المشردون الجدد لم يجدوا أية إغاثة دولية صحية أو غذائية أو خدمية، وليس لهم مكان في مخيمات اللجوء التي اكتظت بالنازحين. وسكان إدلب وأريافها امتداداً إلى أرياف حلب وحماه واللاذقية لا يعرفون إلى أين يرحلون، فتركيا أغلقت حدودها أمام لاجئين جدد، وأوروبا تخاف أن تواجه أزمة نزوح جديدة قد تصل الأعداد فيها إلى مليوني لاجئ جديد إن فتحت لهم معابر الحدود، وكما هو معلوم للجميع فإن روسيا وإيران والنظام يعلنون حربهم على الإرهابيين، لكن كل ضحايا قصفهم مدنيون، وأكثرهم نساء وأطفال، وهم يستهدفون المنازل والأسواق والمشافي، مما يضطر السكان إلى الهرب والنجاة من القصف العشوائي، وليس سراً أن الشعب عامة في المناطق المسماة محررة، لا يشعر بأنه تحرر، بل إنه وقع في أسر جديد بيد سلطات جعلته (يترحم على النباش الأول، كما تقول العامة في إدلب حين تجد مخلصها أشد سوءاً ممن خلصت منه) فقادة «النصرة» وأمثالها ممن يرتاب بهم الناس ليسوا رجال دولة، وليسوا رجال ثورة، وليسوا علماء دين، وأغلب هؤلاء القادة من خارج سوريا، وأما جنودهم من السوريين فهم ممن أغلقت في وجوههم أبواب الحياة بعد أن صمت المجتمع الدولي على إنهاء «الجيش الوطني الحر»، ومكّن «النصرة» وأمثالها من الاستيلاء على إدلب وسواها، كي تعلن شعارات ليست من أهداف الشعب، وأخطرها تكفير المسلمين، والحكم على كثير منهم بالردة، ومعهم ضاعت بوصلة ثورة الحرية والكرامة، وصارت شعاراتهم التي تملأ الجدران (الديمقراطية كفر، والأرجيلة حرام)..
إنها ملحمة مأساوية يعيشها شعب خرج بثورته باحثاً عن الحرية فوجد نفسه بين خصمين خطيرين، أولهما النظام الذي يهدد ويتوعد، وثانيهما فئة مريبة خرجت على الناس بشعارات دينية تزعم أنها تريد تطبيق الشريعة، لكنها لا تملك أية رؤية سياسية قابلة للحياة، وما زلنا نذكر حديث «أميرها» في لقاء تلفزيوني عن كونه سيدعو طوائف سورية للإسلام، أو دفع الجزية أو الحرب، وبدا الرجل كأنه قادم لتوه من «تورا بورا». إن الإهمال الدولي لمصير نحو أربعة ملايين إنسان يواجهون خطر إبادة، أمر لا يقبله عقل ولا منطق، وقد باتت التصريحات الدولية عن القلق حول مصيرهم مخجلة وموضع تهكم، ولم يعد لدى قادة العالم مما يطمئنون به ضمائرهم سوى الوعود المضحكة باقتراب عقد اجتماع للجنة الدستورية، وكأن هذا الاجتماع سينقذ ملايين السوريين المهددين بحرب بدأت عملياً منذ أربعة شهور ضد الأهالي في الشمال السوري.
ولا أحد من الشعب يعرف حقيقة الخطة الدولية حول إدلب، هل حقاً سيصمت العالم على إبادتها كما صمت يوم سقوط حلب وسواها؟ هل يعقل أن يدخل الأتراك حرباً عالمية ضد حلفائهم (روسيا وإيران) دفاعاً عن إدلب؟ وإن كانت الخطة أن يستعيد النظام إدلب كما استعاد بقية المناطق، فهل سيترك للنظام أن يقرر مصير من هجّرهم قسرياً بالباصات الخضر فضلاً عن مئات الآلاف من المحكومين والمطلوبين لأجهزة الأمن والمحاكم السورية دون أية ضمانات دولية تحميهم؟ وإنْ كان الهدف إبقاء إدلب رهينة لإجبار النظام على القبول بحل سياسي، فما الذي يمنع من أن تنطلق المفاوضات في جنيف، ويكون من قراراتها إنهاء حضور «النصرة» وأمثالها بقرار حازم من مجلس الأمن، وبالإسراع بتنفيذ القرارات الدولية عبر إنشاء حكم انتقالي يتولى صياغة الدستور وإقامة الانتخابات، قبل أن ندخل السنة العاشرة من سنوات الدمار والتشرد.