حينما اكتسحت جيوش المغول آسيا الصغرى لتدمير حضارة الشرق، برزت شخصية فذة دخلت التاريخ الإسلامي من أوسع أبوابه، وهي شخصية جلال الدين الرومي. فقد أجبر الغزو المغولي الكثير من العلماء على الهجرة، وكان من بينهم أسرة جلال الدين التي استقرت في قونيا، الواقعة جنوب مدينة أنقرة التركية. تعلم الرومي على أيدي كبار العلماء أمثال «بهاء الدين ولد» الملقب بـ «سلطان العلماء»، والد جلال الدين الرومي، كما تتلمذ أيضاً على يد برهان الدين محقق الترمذي، وشمس التبريزي، وصلاح الدين زركوب. ولعبت كل تلك الشخصيات دوراً في تشكيل شخصية جلال الدين الرومي، وأثرت في كتاباته، وكان من أهم إنتاجه الأدبي كتاب «المثنوي» الذي يتضمن حكايات وأشعاراً تحث على التسامح بين أطياف المجتمع بغض النظر عن مذاهب أفراده ومعتقداتهم وخلفياتهم. وكان أهم ما يميز خطاباته أنها تركز على تنقية النفس وتخليصها من العقبات التي فرضت عليها حتى يستطيع الفرد أن يتسامح مع الذات والآخر، وكي يتمكن من الوصول إلى الله تعالى. فكان خطابه لا يفرق بين أصحاب العقائد الثلاث، فالكل يشترك في الإنسانية. وفي هذا الصدد يقول الدكتور شعبان عبد الحافظ بأن السادة الصوفية تركز في سلوكها على ركن الإحسان، وهو الجانب الروحي في العبادات. فالصوفي يسعى إلى ثلاثة مستويات، هي التخلي والتحلي والتجلي. أولها التخلي عن الذنوب، والثانية التحلي بالفضائل، وثالثها التجلي، وهو مقام الإحسان، أي أن تعبد الله وكأنك تراه. يُعرّف ابن خلدون الصوفية بأن «أصلها الانقطاع إلى الله عز وجل، والإعراض عن زخرف الدنيا، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة...».
ابتدع جلال الدين الرومي طرقه الخاصة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، والتي قربت منه أصحاب الديانات الأخرى، وهي حركة دائرية تعرفت باسم (السّماع). هي طقوس دينية عبارة عن رحلة إلى الله تشتمل على الذكر والأناشيد والشعر مصحوبة بالموسيقى الروحية متناغمة مع حركة دوران الإنسان حول نفسه، ونتيجة الدوران، تنفصل الذات عن المؤثرات الخارجية وتحدث غفلة تامة عن الوجود. فلسفة حركة الجسد الدائرية في مخيلة الرومي أنها مستوحاة من حركة دوران الكون، حيث يرى الرومي أن الكائنات الحية التي تعيش على الأرض في حالة دوران تام، فالكواكب تدور حول محورها، وكذلك حول الشمس. الأرض تدور حول محورها وتنتج لنا تعاقب الليل والنهار، وكذلك دورانها حول الشمس، وينتج لنا تعاقب الفصول الأربعة. من هنا تساءل الرومي لماذا لا أتشبه بحالة الكواكب في العبادة وبطواف الحجاج حول الكعبة؟ على أن يكون الغرض من حركة دوران الجسد هي العبادة، بمنعى إذابة الجسد التي تأخذ النفس إلى رحلة للوصول إلى الله تعالى. ومما يؤسف له أن هذا الطقس الديني الممثل في «السّماع» أصبح اليوم يعرض في الملاهي، ومن جملة الاستعراضات والبرامج الترفيهية، وبذلك فقد رمزيته الدينية.
يعد جلال الدين الرومي من أهم المتصوفين في القرن الثالث عشر ميلادي. وهو شخصية عالمية لاقت الكثير من الإعجاب في العالم شرقاً وغرباً. وخطاباته تتميز بالحب والتسامح والإنسانية بعيداً عن العنف والتشدد. وفي هذا الصدد، يشير المفكر الإسلامي الدكتور عدنان إبراهيم إلى أن الرومي «أخذ الدين من باب الرحمة والحب، فتعرف على الله حقيقةً، وأنتج بذلك خطاباً كونياً عالمياً، يبقى عليه جميع الديانات والطوائف من يهود ونصارى وهندوس وبوذيين». واهتم به علماء المستشرقين ومنهم «آرثر جون آربري»، فقد قال عنه: «سأنفق ما بقي من عمري في دراسة أعمال مولانا جلال الدين الرومي، الرجل الذي نجح في أن ينقذ أهل بلده قبل سبعة قرون من فساد كبير». تقول «فيليس تيكيل» إن شهرة جلال الدين الرومي في الغرب ترجع إلى ما نفتقده من ظمأ روحي كبير.
توفي الرومي عام 1273، ودُفن في قونيا بتركيا، وشارك في تشييع جثمانه أتباع الديانات الثلاث، وقال عنه المسيحيون: نحن فهمنا السيد اليسوع بمولانا جلال الدين الرومي، وقالت اليهود: نحن فهمنا موسى أكثر بمولانا جلال الدين.
*أستاذ مساعد بأكاديمية الإمارات الدبلوماسية