لماذا‎ يصر البعض في الداخل الإسرائيلي على تعطيل أي محاولات للتوصل إلى سلام بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين؟ بل إنْ شئت الدقة فإنه يمكنك أن تتساءل: لماذا هذا الإصرار على تعميق حزازات الصدور بين المسلمين في شتى بقاع الأرض، وبين إسرائيل، التي تتغاضى إنْ لم تكن تسمح بالفعل بما يجري من انتهاكات، لا سيما ما يخص المقدسات الإسلامية، وفي مقدمتها المسجد الأقصى؟
صباح‎ الأحد قبل الماضي، أول أيام عيد الأضحى، كانت القوات الإسرائيلية تقتحم الأقصى وتتعرض للمصلين بوحشية بالغة، مستخدمة الهراوات والقنابل المسيلة للدموع، وتالياً سمحت للمستوطنين وأنصار اليمين الإسرائيلي بالدخول من ناحية باب المغاربة، وفي نهاية الصلاة كانت الحصيلة عشرات من المصابين من المصلين بثياب العيد، نقل بعضهم إلى مستشفيات القدس المختلفة.
ما‎ الذي يعنيه المشهد المتقدم؟ باختصار‎ غير مخل، يمكن القول إن اللعب بملف الأقصى، هو لعب بالنار، نار الدوجمائيات التي يمكن أن تشعل العالم برمته، وتدخل الجميع في صراع عقائدي، فالمساس بالأقصى يعني المساس بعقيدة نحو ملياري مسلم حول العالم، وما أصعب صراع المطْلقات، إذ أنها غير قابلة لفلسفة المواءمات أو القسمة بين الغرماء. ربما‎ يجدر بنا تذكير القارئ بأن قضية الأقصى هي إحدى أهم تفريعات إشكالية القدس في الفكر الإسرائيلي التوراتي، والتصريح الذي يبين لنا عمق المشهد ويجعلنا نستشرف قادم الأيام بالنسبة لسيرة ومسيرة السلام في الأرض المحتلة، هو ذاك الذي جرى على لسان «بن جوريون» أول رئيس وزراء لدولة إسرائيل :«لا معنى لدولة إسرائيل من دون القدس، ولا فائدة للقدس بدون الهيكل».
‎ كان ذلك مع قيام دولة إسرائيل، وعبر سبعة عقود يرى الناظر تصاعداً منهجياً للأحداث، الأقصى في القلب منه، والتهويد جارٍ على قدم وساق، ما يعني تفريغ أي أحاديث عن السلام من مضمونها الحقيقي. ذات مرة، وفي الأيام الأولى لحرب الستة أيام كان «ليفي أشكول» رئيس وزراء إسرائيل وقتها يصيح بأعلى صوته :«هل يريدون البقاء على حد السيف إلى الأبد؟ كان «أشكول» يقصد بذلك جنرالات إسرائيل الذين احتلوا أراضي عربية لم يكن ممكناً عقلاً أو عدلاً الإبقاء عليها في قبضتهم إلى الأبد، مع ما يعنيه ذلك الاحتلال من بقاء العداوات إلى أجل غير مسمى، واستمرار الحروب إلى المنتهى، وضياع فكرة السلام إلى الأبد.
منذ‎ بداية هذا العام استباح نحو 32 ألف مستوطن إسرائيلي المسجد الأقصى، والجديد هذه المرة هو المطالبة بتغيير ما يُسمى بـ«الاستاتيكو» الخاص بالأقصى، أي الوضع القائم والذي تشرف فيه الأردن على المقدسات الإسلامية في كل فلسطين وبخاصة القدس الشريف، والمطالبة بفرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة عليه.
ولعل‎ الخطوة الأولى في إطار تغيير الوضع القائم في الأقصى وما حوله، هي خطوة أو مشروع تقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً، بمعنى أن الأقصى الذي كان طوال ألف وأربعمئة عام مكاناً مقدساً للعالم الإسلامي والمسلمين حول العالم، سيضحى عما قريب ووفقاً لهذا القانون، محل تقاسم لأداء شعائر صلوات يهود إسرائيل والعالم بوصفه الأرض التاريخية التي أقام عليها سليمان هيكله من قبل، حسب الروايات اليهودية ، والخطة تفيد بتخصيص أوقات معينة لدخول المسلمين، وأخرى لدخول اليهود طوال أيام الأسبوع، حيث يتوجب على المسلمين مغادرة الأقصى على ثلاث فترات صباحاً وظهراً وعصراً.
أما‎ التقسيم المكاني، فيعني تخصيص أماكن بعينها في المسجد الأقصى لكل من الطرفين، وبالتحديد تخصيص مساحة في الجبهة الشرقية من المسجد تشكل خمس مساحة ما يسمى بـ«جبل الهيكل»
هل‎ هي مصادفة أن تأتي انتهاكات الأقصى الأخيرة في هذا التوقيت؟ الكارثة في المشهد أن هناك من يستغل إشكالية مرويات إسرائيل الدينية ليسخرها لخدمة الأغراض السياسية، بمعنى أنه مع اقتراب الانتخابات العامة في الداخل الإسرائيلي، والتي لم يتبق عليها سوى شهر واحد، نجد سباقاً من الأحزاب الإسرائيلية وزعمائها للحصول على تأييد، بل ومباركة الجمعيات والمؤسسات التلمودية والتوراتية ذات التوجهات المغرقة في اليمين، الأمر الذي تمثل في تصريحات لوزير الأمن الداخلي الإسرائيلي «جلعاد أردان»، أشار فيها إلى أنه «يجب تغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى حتى يستطيع اليهود الصلاة فيه».
هل‎ يمكن لمثل هذه الأجواء أن تشجع أولئك الذين يتبنون طروحات وشروحات السلام في الحال والاستقبال؟ يقول‎ البعض إن الرئيس ترامب سيعلن عن خطوط طول وعرض «صفقة السلام»، في سبتمبر المقبل، ونقول عن أي سلام يتحدثون، إذا كانت هذه هي قناعات إسرائيل تجاه مقدسات الفلسطينيين والمسلمين من مشارق الأرض ومغاربها؟ لا‎ أحد يحتل وينجو ببراءة، كما يقول الفيلسوف البلغاري الأصل الفرنسي الجنسية الراحل «تزيفتان تيدوروف»، وعليه ربما يتوجب على إسرائيل أن تدرك الخطورة القاتلة لما تقوم به اليوم وغداً.
*كاتب مصري