إذا كتب مدير جامعة في «غوغل» عبارة «المحاماة والذكاء الاصطناعي»، فقد يبدأ التفكير في مصير كلية الحقوق بجامعته، أما طالب الحقوق، فقد يذرف دمعة وهو يرى حلمه بالعمل محامياً يتبخر، وقد يفكر المحامي جدياً في تنويع مصادر دخله، لأن مداخيله ستنخفض تدريجياً إلى أن تصل الصفر، فثمة منافس قادم بقوة، والهزيمة أمامه محتومة.
فالعناوين التي تظهر عند البحث تثير القلق على المهنة فعلاً، لكن الحقيقة أن ما وصل إليه الذكاء الاصطناعي القانوني حتى الآن هو أن بعض الشركات المتخصصة تبني محامٍ آلي قادر على قراءة الوثائق، وتحليل العقود، والتنبيه على ما قد يشوبها من عيوب ونواقص، وتحديد المخاطر والمسؤوليات والالتزامات، وإعطاء دفوع قانونية بناءً على الأحكام القضائية، وصياغة حجج سبق للقضاء الأخذ بها، وتكوين فرضيات بناءً على الأسئلة والوقائع المدخلة.
هذا الدور الذي يقوم به الذكاء الاصطناعي حتى الآن سيؤثر على الجميع، سواء على المحامي، إذ سيكفيه عناء البحث والتصفّح، ليصبّ جهده ووقته في بناء خطته وخطواته، أو على طالب المساعدة، إذ سيقدم له جزءاً مما يحتاجه، ويمهد له لفهم أفضل لما قد يحتاجه أكثر، أو على المؤسسات المعنية بتخريج المحامين، إذ سيتحتم عليها تأهيلهم للتعاطي مع البرامج التقنية القانونية.
لكن هل هذا هو كل شيء في الذكاء الاصطناعي القانوني، أو أن المستقبل سيحمل مفاجأة غير سارة بالنسبة للمحامي، وهي أنه سيخلع رداءه الأسود إلى الأبد؟! من واقع عملي في هذا الميدان، أعتقد أن الأمر لن يعدو أكثر من استفادة المحامي البشري من زميله الآلي في تطوير وتحسين وتسريع أعماله، وتقليل اعتماد بعض أصحاب الحاجة إلى الخدمة القانونية على المحامي البشري.
أعتقد ذلك من حيث إن مجال المحاماة، وأي مجال آخر مشابه، يتأهل فيه المرء ليؤدي الصنعة أو يقدم الخدمة بمزاياه الذاتية، إلى جانب المعرفة بالتخصص، وبلا شك سيتفوق المحامي الروبوت من حيث المعلومات والمصادر، لكنه سيفتقر إلى مزايا زميله البشري التي تجعل متلقي الخدمة يطمئن إليه، إلا إذا كان متلقي الخدمة نفسه موكّل روبوت!
ما دام متلقي الخدمة من لحم ودم وأعصاب، بصدد تنظيم علاقة تترتب عليها حقوق لصالحه على بشر، والتزامات على كاهله نحو بشر، أو إيجاد حل لمأزق أو لحق ضائع، مع كل ما يصاحب ذلك من أحلام وبواعث ورغبات وتوقعات ومخاوف وشكوك ونوايا حسنة أو غير حسنة وسوء فهم واشتباه، فمقدم الخدمة في المقابل، لا بد له من مزايا وصفات تفهم المشاعر، وتتحسس النوايا، وتستشف الأفكار من ثنايا الكلام.
كما أن تغذية المحامي الذكي بشكل دقيق بالواقعة، تحتاج بدورها إلى محامٍ بشري، إذ إن التشخيص السليم يعتمد على العرض الدقيق، وفي سبيل فهم الموضوع بشكل صحيح يلجأ المحامي البشري إلى استنطاق موكله في أمور لم يفكر بها، أو لا يدري أنه كان من الواجب عليه التفكير فيها، أما جلوس شخص مع محامٍ آلي بمفرده، فهو يشبه دخول شخص على طبيب جراح آلي، ثم يكبس على أزراره لبدء عملية جراحية هو قرر من تلقاء نفسه أنه يحتاج إليها.