جاهر الشَّيخ يوسف النَّاصري، مِن «حركة النُّجباء»، بالآتي: «أطالب بإعادة بناء الأجهزة الأمنية من جديد، وأطالب بحل الجيش العراقي، وباعتبار «الحشد الشَّعبي» هو الجيش الأول في العراق، وليس رديفاً وليكن هو وزارة لحماية أمن ومستقبل العراق استراتيجياً. لسنا بحاجة إلى من يُعطى ألف دولار لكي يكون جندياً، وعندما تقع حادثة يُلقي بملابسه وبندقيته ويهرب، وجيش كهذا مرتزق وليس أصيلاً»(عن عدة وسائل إعلامية).
لم يكن هذا الموقف جديداً ولا غريباً، ولا يختص به يوسف النَّاصري (اسم حركي)، إنما هو عين ما يقوله الولي الفقيه نفسه، وميليشيات «الحشد الشعبي» كافة، مِن مقلدي خامنئي في الدين والسياسة. فخامنئي نفسه يكثر الوصايا بالحشد للمسؤولين العراقيين الذين يزورنه، لغرض رسمي، وآخرون للنهل مِن بركاته.
لم تكن فكرة «الحشد الشعبي» جديدة، والذي يفتخر أمين «حزب الدعوة» بتأسيسه، مع أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة. فمِن دخول أول ميليشيا مِن إيران ثم تأسيس الميليشيات تباعاً كانت الفكرة قائمة أن يتأسس جيش يوازي بدايات تأسيس الجيش العراقي مِن جديد، لهذه الغاية حصل إصرار على حلّ الجيش العراقي، وليس إعادة تأهيله.
كان تفريخ الميليشيات عملاً إيرانياً، فجيش المهدي، الذي تأسس(2003)، عملت إيران والأداة كان المالكي على شقه بـ«عصائب أهل الحقّ »، بعد خروج الجيش الأميركي(2011)، وبعدها شُقت هذه الجماعة بـ«حركة النَّجباء»، بما يناسب التطورات على السَّاحة السُّورية، وكل جماعة تجدها أشد ولاءً للولي الفقيه من سابقتها.
نعم، ظهرت ميليشيات الحشد الشَّعبي بكثرة بعد فتوى «الجهاد الكفائي»، الصَّادرة من المرجعية الدِّينية، وهي خطوة لم تكن المرجعية تحسب حسابها، كي تأخذ بنظر الاعتبار النوايا الإيرانية بتأسيس حرسها الثَّوري، الذي يُدين بتحركه القتالي والعقائدي لمرجعية خامنئي، وإلا فالخطاب الذي أذاع تلك الفتوى لا علاقة له بتأسيس ميليشيات مستقلة عن القوات المسلحة. لكنَّ الاندفاع إلى التجنيد داخل الميليشيات تجاوز الفتوى، ومسبباتها لردّ خطر «تنظيم داعش»، فكان «الحشد الشَّعبي»، واختير لقيادته أكثر الميليشياويين إخلاصاً لإيران.
ليست إيران الوحيدة التي أسست حرساً ثورياً، إنما الأنظمة التي تأتي بثورات تؤسس مثل هذا الجيش كافة، مع اختلاف الأسماء واتفاق بعض المهام، وفي أولها قمع أي خطر يطول النِّظام، إلا أن الحرس الثَّوري، الذي تأسس بعد تربع رجال الدِّين على السُّلطة، وفقاً للدستور وطبيعة توجه النِّظام، يعمل خارج إيران لما عُرف بـ«تصدير الثّورة»، وتصدير الثَّورة له عدة وسائل غير أن تأسيس الميليشيات، بالمناطق الساخنة، هو مِن فعل الحرس المذكور، والذي يختص به فرعه «فيلق القُدس». لذا كانت الفوضى العراقية ووجود الميليشيات، المؤسسة والمدربة بإيران، وفتوى الجهاد الكفائي، فرصة لا يجود بمثلها الدَّهر لنظام ولاية الفقيه، بتأسيس حرسها الثوري بعناصر عراقية.
كتب كثيرون مقرنين «الحشد الشَّعبي» بالانكشارية العثمانية، لكنَّ الانكشارية تجمعها فكرة صوفية (البكتاشية)، ذات منحى شيعي بسُلطنة سُنية، على خلاف الصَّفوية ذات منحى سُني شكلت سلطنة شيعية، وولاء الاثنين لدولتهما، بينما ميليشيات «الحشد» لم تجمعها عقيدة داخلية بقدر ما يجمعها الولاء الكامل لإيران. حلت الانكشارية بأمر داخلي، بينما الحشد لا يحل إلا بأمر خارجي، فالقوة الداخلية مقيدة بالسطوة الإيرانية.
لا نلغي مساهمة «الحشد» ضد «داعش»، لكنَّ المبالغة والتقليل مِن الدور الحاسم للجيش، كان المقصود منه تهميشه، بينما الميليشيات كانت معرقلة بمناطق المواجهة، أما الانسحاب الذي مهد لدخول «داعش»، كان مرتبطاً بمكتب القائد العام، والأمر ربَّما لإعلان حالة الطوارئ كي يبقى رئيساً للوزراء، ويُستعان بالحشد، الذي صرح بأنه مؤسسه الأول، ليحل محل الجيش، الذي لا ترى إيران مصلحةً بوجوده. لهذا قام عماد مغنية(قُتل2008) بتدريب المقاومة بالشّام، وإدخالها العِراق، مع فتح حدوده لـ«القاعدة»، التي شكلت تنظيم «داعش».
لماذا يُطالب بوجود «الحشد»، مع انتهاء الغاية، وأن يكون بين قادته متهمون بالإرهاب ونواب لقاسم سليماني، بينما صحوات المناطق الغربية انقلبت على «القاعدة» وهزمتها، حتى فرَّ الزَّرقاوي ليُقتل بهبهب(2006)، لكنها لم يُعترف لها بشيء!
أما أن بين «الحشد» مسيحيين وسُنّة، فهذا لذر الرماد في العيون، فلا المسيحيون يعترفون بأبي الرَّيان والمئة الذين معه، ومهمته تمجيد الحاج سليماني في الفضائيات الولائية، ولا السّنة منعوا تجاوزات «الحشد» وهيمنته على مناطقهم.
في زمن مشابه، جمع والي العراق داوود باشا(ت1851)، الحشد الانكشاري بساحة السَّراي، وقرأ عليهم الفرمان السُّلطاني بحلها، فخلع الجميع «القالباق»(غطاء الرَّأس)، واعتمار غطاء الرأس الخاص بالجيش، بعد التسجيل في الكتائب النِّظامية(لونكريك، أربعة قرون مِن تاريخ العراق الحديث)، فانتهى أمر الانكشاريين بالعراق(1829).
لهذا وغيره قال صالح التِّميمي الكاظمي(ت1845) في داوُد باشا: «لعَمرك ما زاغت عن الرُّشدِ أُمةٌ/إذا كان عن داوُد تتُلى زبورها/حمى جانبيها والعِراق بسطوةٍ/ يميناً إلى طهران وافى نذيرها»(الوائلي، الشعر السِّياسي العِراقي في القرن19). فمِن أين يؤتى بربع داوُد والقوم يسمَّون الولي الفقيه بطهران ولي المسلمين ببغداد، وجيشه جيش المسلمين، ومِن مهامه: «النِّضال مِن أجل نشر أحكام الشَّريعة الإلهية في العالم»(الدُّستور الإيراني)! بعدها يثور السُّؤال: حشد شعبي عراقي أم حرس ثوري إيراني؟! أقول: إذا تحقق إعلان «الحشد» جيشاً فمن حقّ «داعش» على إيران نصباً يمجدها.
*كاتب عراقي