كانت أول زيارة لي إلى «سفوان»، وهي مدينة مغبرة تقع على الجانب العراقي من الحدود مع الكويت، في أوائل 2003، قبل بضعة أسابيع على انطلاق الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. كانت قوات الائتلاف تنتشر على بعد بضعة أميال إلى الجنوب، في انتظار الأمر باختراق الحاجز الطويل الذي يفصل بين البلدين. وكان «ليث»، مرافقي العراقي المعين من قبل الحكومة، مدركا للفظاعات القادمة.
فحينما كان جندياً شاباً ضمن قوات المشاة خلال طرد قوات صدام حسين من الكويت عام 1991، فقد «ليث» الكثير من رفاقه في تلك المنطقة. وأثناء الانسحاب، حمل جثمان أحد الجنود لعدة أميال، ثم قام بدفنه في حفرة على الجانب العراقي من الحدود في وقت متأخر ذات ليلة. وكانت نيته أن يسترجع الجثمان لاحقا من أجل مراسم دفن لائقة. غير أنه لم يتمكن من العودة إلى ذاك المكان إلا بعد أشهر، وبحلول ذلك الوقت لم يعد قادراً على تمييز الموقع الذي دفن فيه رفيقه.
تذكرتُ قصة «ليث» في وقت سابق من هذا الشهر، عندما رأيت صور مراسم رسمية في سفوان: جنود عراقيون، يتقدمهم جنرال، يسلّمون رفات 48 كويتياً كانوا قد اختفوا خلال الاحتلال 1990-1991. ما زال أكثر من 550 كويتياً آخراً في عداد المفقودين – ولا أحد يعلم كم من مئات الجنود العراقيين دُفنوا على عجل في الظلام. ولكن على الأقل بات باستطاعة بعض العائلات الآن دفن موتاها.
المراسم تمثّل أيضاً محطة مهمة في الرحلة التي قطعتها الكويت والعراق نحو تطبيع العلاقات بينهما منذ سقوط صدام حسين في 2003. والزعماء العراقيون هذه الأيام يقولون إنه ينبغي نسيان صفحة نزاعات الماضي وطيها من أجل بدء فصل جديد من العلاقات بين البلدين.
وفي هذا السياق، قال رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي الشهر الماضي إن «الفرص المستقبلية أكبر من المخاوف والعقبات التي بين البلدين». وفي وقت سابق من الصيف، قام أمير الكويت بزيارة إلى بغداد، وهي الأولى من نوعها إلى هناك؛ كما زار الرئيس العراقي برهم صالح مدينة الكويت لأول مرة في الشتاء الماضي.
خطوات بناء الثقة الدبلوماسية هذه لديها هدف استراتيجي كبير بالنسبة لبغداد. ذلك أن العراق، العالق بين أزمتين إقليميتين -- المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران في الخليج، والعداء المتزايد بين السعودية والنظام الإيراني -- ينظر إلى الكويت باعتبارها ملاذا آمنا نسبيا، فالكويت تحافظ على علاقات ودية مع الدول الثلاث، ما يسمح لها بتعميق علاقاتها الاقتصادية مع العراق من دون إثارة شكوك أو عداء.
أما بالنسبة للكويت، فيمثّل العراق سوقاً وفرصة استثمارية كبيرة على عتبة بابها. كما أنه يمثّل مفرا من توترات أخرى في شبه الجزيرة العربية. والعراق هو واحد من الأماكن القليلة في المنطقة حيث تستطيع الكويت القيام بدور إيجابي في السياسة الخارجية.
هذا التداخل في المصالح أخذ يؤتي أكله منذ بعض الوقت، إذ تعتزم العراق والكويت تطوير حقول نفطية بشكل مشترك، أحدها يقع في منطقة سفوان. إنها فرصة ليضعا جانباً نزاعات عمرها عقود. كما يساعد الكويتيون أيضاً في تطوير حقول غاز في جنوب العراق. وبالنسبة لبغداد، تتيح هذه المشاريع إمكانية تطوير استراتيجية مستقلة في مجال المحروقات مستقلة عن المصالح الإيرانية والأميركية.
وعلاوة على النفط، وعدت الكويت بالاستثمار بشكل كبير في إعادة إعمار المدن العراقية التي دُمرت في الحرب ضد تنظيم «داعش»، وثمة أيضا مخططات لإنشاء مناطق اقتصادية خاصة على الحدود، ما يتيح لكل طرف وصولا أسهل إلى أسواق الطرف الآخر؛ والشهر الماضي، زار وزيرا التجارة في البلدين موقعا مرشحا لاحتضان واحدة من هذه المناطق في سفوان.
وقد تمر سنوات قبل أن يتم إيجاد كل بقايا الأشخاص الذي اختفوا في حرب 1990-1991؛ ومرافقي ليث، الذي فر من العراق بعد سقوط صدام حسين، لن يستطيع أبدا تحديد موقع مدفن رفيقه الذي مات في الحرب. ولكن العراق والكويت أخذا يدفننا خلافاتهما، وهذا شيء مفيد للجميع.
* محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»