شهدت المشاعر المقدسة، كما هي في كل عام، قدوم حشود من مختلف أنحاء العالم ومن كل فج عميق، اقترب عددها هذا العام من مليونين ونصف المليون حاج، أتوا ليشهدوا منافع لهم، ويطلبوا مغفرة ورحمة من ربهم، ويتجردوا من الأهواء والملذات ويعيشوا أياماً لا يمكن أن توصف بلغة البشر. وقد عاينتُ بفضل من الله مشاهدَ ووقائع عدة في خضم مشاعر حج هذا العام جعلتني، وتجعل كل إنسان، يعي سبب وجوده فوق الأرض وعظمة ديننا الحنيف. لقد عاينا أمطاراً هبت بالرحمة والسلام على جموع عرفات وهي تواجه حرارة المشهد المقدس. وشهدنا كلنا جموعاً من مختلف أنحاء العالم جاءت للتعارف في بقعة واحدة بمخيمات منى ثم على صعيد عرفات، دون سابق معرفة، منهم مشاهير وأعيان وأغنياء تركوا نجوميتهم وغناهم بحثاً عن رحمة الله حيث يتساوى الجميع.
كنا في مكان رباني بين ملايين الحجاج الذين أتوا من كل حدب وصوب، كل منهم يشهد للآخر بالإيمان، فلا يبخسه قيمته مهما كان.. التأموا جميعاً في وحدة ربانية وتفاهم وتناغم لا يمكن وصفه، ملايين المسلمين في مكان واحد. كنت في منى ثم عرفة مع ضيوف وزارة الإعلام التي أعطت صورة مضيئة لكل جوانب تنظيم الحج، بصحبة أناس ما كنت أعرفهم ولا أعددنا للقاء مسبقاً، وكان يتواجد معي إخوة إعلاميون من تونس ومن مصر أبرزهم الإعلامي المصري الكبير المقيم في أميركا عزيز فهمي وأخوه التوأم نجيب فهمي، ومدير الإذاعة الوطنية في تونس سفيان بن عيسى، وكانت تجمعنا ساعات من الذكر والأحاديث اللامتناهية، نصلي سوياً بحضور حجاج من عشرات الدول لنشهد جانباً من عظمة الدين الإسلامي وقد تجلت في قوله تعالى: «فاعلم أنه لا اله إلا الله»، وما يندرج تحتها من قيم ومبادئ ومعايير وضوابط وأخلاق، وقد جاء جميع الأنبياء ليتحدثوا عن هذا المرتكز الأساس في منهج الاستخلاف الرباني، منذ آدم عليه السلام إلى نوح، وإبراهيم، فموسى، فعيسى، إلى خاتم الرسل محمد عليه وعليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
ولا جرم أنه في شوارع مزدحمة بالحجاج وحافلاتهم، ما أن تنزل المشعر الحرام حتى تجد مخيمات نورانية لا حصر لها، كل منها يحمل اسم مطوف من المطوفين، وفي إحدى الخيم تجد نفسك محاطاً بجنسيات مختلفة، وهنا تتجلى الآية الكريمة: «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» (الحجرات- 13).
وفي جو أشبه بالمسيرات، تسير قوافل حجاج كل دولة يلهجون بدعاء التلبية ويسعون لنيل مغفرة من الله تعالى، غير عابئين بمشاغل الدنيا. وفي هذا المشهد الإيماني، حيث لا فرق بين غني وفقير، عربي وأجنبي، لا يمكن إلا أن تدمع عيناك وأن تخرج بيقين أقوى بأن ما يجمع المسلمين أكثر بكثير مما يفرقهم.
ولا غرو أن ما انتبه إليه جميع الحجاج، في المشاعر المقدسة، هو التوسع في أعمال الخير، حيث بدت مشاهد العطاء والخير حاضرة، لاسيما في توزيع عبوات المياه والأطعمة وغيرها مما يريح الحجاج ويخفف عنهم، دون أن ننسى التوسعة في المكان، حيث بدت توسعة رمي الجمرات أكثر تيسيراً على الحجاج. وتعد منشأة الجمرات من أبرز المشروعات في مشعر منى، وهي تتكون من خمسة طوابق ارتفاع كل منها 12 متراً، وتضم كل الخدمات. وفي يوم عرفات، استمع الحجاج إلى الخِطبَة وصلوا الظهر والعصر جمع تقديم وتقصير، وكان الحجاج يسيرون في تجمعات بالآلاف مرددين «لبيك اللهم لبيك..»، في مشهد رباني وجو إيماني يسعد القلوب وتطمئن به النفوس.
ونحن نطوف طواف الوداع رأينا حول الكعبة، التي ضمت حشود الحجاج، مشاهد فيما تبدو وكأنها حديقة فيها مختلف الأزهار، حيث يقوم الحجاج برفع شمسيات للوقاية من أشعة الشمس بألوان مختلفة، وهو ما يظهر من أعلى الطوابق المحيطة بالكعبة وكأنها حديقة مبهجة للناظرين.. فحج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور لكل حاج.