في الليلة التي اغتيل فيها القس مارتن لوثر كينج، صعد روبرت إف. كينيدي على متن شاحنة مسطحة في مدينة إنديانابوليس وخاطب حشداً غفيراً من الأميركيين المنحدرين من أصول أفريقية الذين كانوا لم يسمعوا الخبر بعد. إنه جدي، الذي كان يومئذ هشّاً ومفجوعاً، ومكلوماً ومكسور الفؤاد، قدّم لذاك الحشد ما استطاع تقديمه: ليس عصا سحرية لمعالجة كل الجراح، وإنما بعض الإنسانية، من رجل كان يعرف معنى الألم.
وبينما هزت أعمال العنف بقية البلاد في الساعات التي تلت، ظلت إنديانابوليس هادئة. ولا شك أن قيام هيو هويت المعلّق السياسي المحافظ في صحيفة «واشنطن بوست» بالتلاعب مؤخراً بتلك اللحظة في عموده بغية مهاجمة الحزب «الديمقراطي» سياسياً ينطوي على مغالطة وتزييف للحقيقة والتاريخ.
ولكن قبل العودة إلى جدي، هناك بعض الأشياء الأخرى التي أخطأ «هويت» بشأنها. ومن ذلك: أولاً، أن السياسات التي تتضمن احتجاز الأطفال السود والبنيين في أقفاص، وترهيب الأسر السوداء والبنية بمداهمات شبه عسكرية، ومحاولة منع الأصوات السوداء والبنية من التصويت لا يمكن أن تكون سوى سياسات عنصرية.
ثانياً: العنصرية لا تظهر سوى في أسوأ المذنبين. وهذا هو الافتراض الأخطر لأميركا البيضاء، وافتراض يعكس امتيازاتنا العنيدة. ذلك أنه بغض النظر عن مدى استفادتنا من نظام مصمَّم لمنح البيض امتيازات على حساب السود، نستطيع على نحو ما نفض أيدينا من المعاناة التي يتسبب فيها ذاك النظام.
والحال أن أيدينا ليست نظيفة. والحساب الذي يجري في البلاد اليوم هو انعكاس لما حذّرنا منه القس كينج نفسه: أن صمت الأصدقاء هو الذي يحمي القيود والأغلال الأميركية في نهاية المطاف، وليس كلمات الأعداء.
والواقع أن الحساب يمكن أن يكون صعباً وفوضوياً، ويمكن أن يباغت الناس ويربكهم. ولكن العدالة لا تتعلق بما هو مريح ويناسبنا. وإذا كان ثمة شخص يدرك هذا، فإنه روبرت كينيدي. ذلك أن جدي لم يكن يخشى القبح أو خجِلاً من المعاناة. ولم يكن يتحاشى الجروح العميقة، إذ كان يدرك أنها تحتاج إلى الضوء والهواء حتى تشفى. وفي مرات كثيرة، كان شاهداً على مشاكل بلدنا وعيوبها ونقائصها.
يجثو على ركبتيه أمام طفل جائع ليواسيه في كوخ في ميسيسيبي. ويتكئ برفق على الناشط الحقوقي والزعيم العمالي سيزار تشافيز، ويتقاسم الخبز مع عمال مزارع كادحين عبر البلاد. ويجلس على سرير إلى جوار طفل في العاشرة من عمره من السكان الأصليين لأميركا فقد والديه حديثاً في محمية باين ريدج. ويصعد على متن تلك الشاحنة في تقاطع الشارع 17 مع شارع برودواي عندما مات الدكتور كينج. هكذا كان روبرت كينيدي.
بيد أن «هويت» كان محقّاً من ناحية واحدة: لقد كان خطاباً جيداً تلك الليلة، ولكنه أخطأ في فهم لماذا كان كذلك. فكلمات جدي كان لها ذلك الوقع ليس لأنه كان يحاول التحدث باسم كل الأميركيين، وإنما لأنه كان يناضل من أجل بلد يستطيع فيه الأميركيون الصامتون التحدث باسمهم. والحاضرون كانوا يدركون ذلك.
واليوم، ينبض ذاك النضال عبر شرايين شعب لا يخشى انتقاد ترامب بسبب سياساته، ولا يخشى النضال من أجل الجيران الذين يستغلهم الرئيس ويستبعدهم ويهملهم، ولا يخشى الخروج إلى الشوارع من أجل التظاهر دفاعاً عن بلد يستحق أن نتوحد من أجله.
*«ديمقراطي» يمثّل ولاية ماساتشوسيتس في مجلس النواب الأميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»