في إدلب قرابة أربعة ملايين مواطن سوري، فقد تجمع فيها الهاربون من القصف والتدمير الذي أصاب جل المحافظات السورية، وهجر إليها قسرياً مئات الآلاف ممن رفضوا الاستسلام والبقاء تحت سلطة النظام بعد المصالحات الوهمية التي عقدتها روسيا بالقوة العسكرية المفرطة في الغوطة وريف حمص وحوران وعدة مناطق سوريا، ولو أن تجربة المصالحات أسفرت عن نتائج مقبولة لكان انضم إليها كثير ممن يسكنون اليوم في العراء، وربما كان بعض سكان إدلب تجنبوا الدمار الذي يهددهم ويحيط بهم، لكن الروس لم يفوا بوعودهم لمن صدقوها وصالحوا، حيث تعرض كثير منهم للاعتقال، وبقيت نظرة النظام لهم على أنهم إرهابيون وخونة وعملاء، ولم يستفد من الانتصار الذي حققه له الروس والإيرانيون وحتى الأميركان الذين تخلوا عن دعم حوران، ليفتح صفحة جديدة ويعلن أن مطالب الشعب بالحرية والكرامة مشروعة، وأن القانون وحده هو الذي يحكم، وليس أهواء أجهزة الأمن وأمراء الحرب من الميليشيات التي خرجت عن النظام وعن الشعب معاً، ولو أن النظام قدم رؤية لمستقبل سوريا بعد تسعٍ عجاف لشغل الناس بمناقشتها ولتوقف القتال ليبدأ الحوار، لكن الإصرار على الحسم العسكري وإخضاع الشعب بالقوة سيجعل الحرب الدائرة مستمرة إلى عقود قادمة، وإن اختفت فيها العلنية بانكسار مرحلي، فإنها ستنقلب إلى حرب استنزاف دامية لأن الدم يجر الدم، وقديماً قيل (الدم لايلتم).
سألني ذات يوم أحد كبار المسؤولين (لماذا يكرهنا أهل إدلب؟) فقلت (ربما لأنكم لم تقدموا لهم قط ما يعبر عن حبكم لهم، فإدلب محرومة من سبعين عاماً من أي مشروع اقتصادي ومن فرص العمل، مع أن أكثر من 93% من شبابها جامعيون، ولولا الهجرة القديمة إلى اليونان وقبرص والسفر إلى دول الخليج لما تمكنوا من إيجاد مصادر رزق، وتعلمون أن الثروة الأهم في إدلب هي الزيتون الذي كان يثمر عاماً ويجدب عاماً، ولاتكفي مداخيله لحياة كريمة، ومساحة محافظة إدلب أكثر من نصف مساحة لبنان ونصف مساحة الدلتا، وهي أرض زراعية ممتازة وموقع سياحي عالمي، ولكن لم تشهد عناية حكومية تذكر).
المهم أنني لاأعلم ما هي خطة «جبهة النصرة» وأمثالها لليوم التالي إذا حدثت معجزة، وتمكنت من الانتصار على روسيا وإيران والنظام، أتراها ستعلن إدلب دولة مستقلة أم أنها تخبئ لنا مفاجآت من العيار الثقيل كأن تختفي فجأة كما اختفى «داعش»؟ وأشعر بالأسى لما يتعرض له سكان القرى والبلدات الصغيرة التي دمرتها مئات الآلاف من الغارات والقنابل المدمرة، وهم وحدهم الآن من يتصدون للمجازر، والعالم كله يتفرج، ومبادرات آستانة تهدف بوضوح إلى تمكين النظام من استعادة إدلب بالقوة العسكرية كما استعاد سواها، لكن الناس يفضلون الموت تحت القصف على العودة إلى الموت البطيء، فهل من مبادرة دولية صادقة تبث الحياة في مفاوضات جنيف، وتفتح صفحات جديدة للشعب السوري، وتجنب ملايين السوريين كارثة إنسانية كبرى باتت على وشك الحدوث؟