دخل السودان مرحلة سيادية شعبية جديدة تتمثل بالتحول من النظام الديكتاتوري إلى النظام المدني بعد ثلاثين عاماً من حكم الرئيس المعزول عمر البشير، وسبعة أشهر من الاحتجاجات، وأربعة أشهر من المفاوضات الصعبة بين قوى الحرية والتغيير التي قادت الحراك والمجلس العسكري الذي تولى السلطة منذ إسقاط البشير 11 أبريل الماضي.
إنها الوثيقة الدستورية التي اتفق عليها الطرفان، والتي ستحكم الفترة الانتقالية لثلاث سنوات برعاية مندوب الاتحاد الأفريقي محمد الحسن ومشاركة إثيوبيا.
ولعل أروع اللحظات التي يمكن توثيقها هي التي خرج فيها الشعب السوداني العظيم برجاله ونسائه وشيبه وشبانه إلى الشوارع محتفلاً بشكل عفوي بفرحة الانتصار. عمت الشوارع قصائد بشرية رائعة ملونة بالعلم الوطني ودوّي هتافات الفرح. إنه عيد الألوان والأصوات والأجساد الزاحفة، ليس إلى الاحتجاجات، بل إلى التعبير الأنقى والأروع عن تحقيق النصر السيادي، لأن السودان من قبل كانت تتحكم به وصايات «الإخوان» وقطر وسواهما. نصر سيادي استقلالي وشعبي ديمقراطي واجتماعي مدني. فما أجمل الحرية عندما تفيض عليها أيدي الأحرار وترفعها في فضاء ينضح بالفرح. وهل يمكن أن ننسى دورة المرأة في هذه الثورة وحضورها اللامع الشجاع الذي نافست فيه الرجل بمشاركتها الكثيفة والفاعلة والباسلة في التظاهرات؟ إذاً هي نشوة النصر حلت بدلاً من سكرات الذل والهوان والخضوع والقمع. قالت المرأة: لا! وأنا أيضاً من بلادي. وأنا أيضاً أرفض أن يحكمني رئيس أدت ممارساته إلى وضع السودان في مراتب الإرهاب والعزلة.
لكن وبعد هذه المشاعر العالية، نجد أن أمام الثورة الانتقالية تحديات عديدة، برز بعضها وقد تبرز ظواهر أخرى.
فأثقال النظام السابق ما زالت موجودة وستحاول أن تعيد جمع شتيتها، وتحاول العبث بالأمور من جديد وبكل الوسائل المتاحة، إرهابية كانت أم تخريبية أم سياسية. وخلف هذه الأثقال متضررون أيضاً من هذا الاتفاق الدستوري بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري. ومن لا يعرف أن فلول النظام السابق ستغذيها وتدعمها دول لا تريد الخير لهذا الشعب ولا تتقبل الهزيمة والابتعاد عن السلطة. دول خارجية تتآلف مع «الإخوان» والإسلام المتطرف لتسترجع هيمنتها المباشرة على السودان. أما مكونات الثورة: المجلس العسكري وقوى التغيير، فقد تكون مهددة من الداخل: ونحن نعرف أن عدة محاولات انقلابية عسكرية تمت أثناء الاحتجاجات والمفاوضات وضربت في مهدها. وهذا يعني أنه يجب اتخاذ أقصى درجات الحذر داخل الجيش لكي لا تتكرر هذه المحاولات الانقلابية.
أما قوى الحرية والتغيير، فهي مكونة من عدة كيانات حزبية، لابد أن تعود إلى حدودها الخاصة المنفردة. وهنا قد يبرز تحدي الانقسام على السلطة والتنافس عليها في ظل الديمقراطية التي ما زالت هشة، وها هو الحزب الشيوعي يعلن استقلاليته (وقد شارك بقوة في التظاهرات) وعبر عن عدم إرادته الدخول في الحكومة ليكون نواة معارضة سلمية تواجه الحكم الثنائي الجديد وربما تنضم إليه أحزاب أخرى: فمن الطبيعي أن تنشأ حركات سياسية وأحزاب جديدة تحمل رؤى أخرى وتصورات مختلفة. إنها الديمقراطية التي تقوم عليها التعددية. لكن يخشى أن ينزلق بعض هذه الأحزاب والمتضررين إلى الخروج على ثوابت المجتمع المدني، أو يخشى أن تقوم بعض فلول الإسلام المتطرف المرتبطة بالخارج ومن خلفها أو أمامها تنظيم «الإخوان» بعلاقات وثيقة مع قطر أو تركيا أو حتى بإيران وتحاول ضرب الصيغة الانتقالية المدنية.
ونظن أن مواجهة هذه القضايا لا يمكن أن تكون ناجعة إلا بإرساء العدالة وتحسين أوضاع الناس الاقتصادية وبحرية التعبير وإعطاء الشعب ثقة بالحكم وديمقراطيته الجديدة، والانفتاح على العالم العربي، والابتعاد عن أساليب القمع.
فالشعب يريد أن يحس فعلاً أن الأمور بعد سقوط البشير باتت أفضل على كل المستويات، وهي تلبي تطلعاته.
فالثورة لا تصنع مرة واحدة، بل كل يوم، وهذه المرة يجب أن تتم على أيدي السلطة الجديدة.
هذه الثورة المجيدة قد تواجه مؤامرات وتحديات، والمهم أن تعالج ليس على طريقة البشير وفساده، بل على صورة من صنعها. يريد الناس أن يكون النظام الجديد على صورتهم وصورة الثورة. وهنا التحدي الكبير.