في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، وبعد سنوات من سياسات الهجرة السخية، بدأت الحكومة الفرنسية حملة مشددة ضد المهاجرين، وأعدت مصنعاً سابقاً لإنتاج القرميد ليكون مقر إقامة للمهاجرين الذين فر كثيرون منهم من الاضطهاد النازي. وبدلاً من أن يجدوا ملاذاً آمناً في فرنسا، وجدوا أنفسهم محتجزين في مكان مزدحم وخطير بمعسكر «دي ميل» بجنوب فرنسا.
ويعلّم تاريخ «دي ميل» الأميركيين الكثيرَ في الوقت الحالي، حيث تصلنا أنباء عن مصاعب الحياة في مخيمات حرس الحدود بجنوب الولايات المتحدة. فهذه المنشآت التي يُحتجز فيها طالبو اللجوء من أميركا الوسطى، ظروفها متدهورة للغاية. وحتى الولايات المتحدة لديها تاريخ طويل في استخدام المعسكرات وأشهرها احتجاز الأميركيين اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية. واستبعد كثير من الأميركيين احتمال إقدام نظام ديمقراطي على معاملة مهاجرين مسالمين بإهانة إنسانيتهم اليوم. وهؤلاء يشككون في احتمال أن تصبح معسكرات الاحتجاز على الحدود نذيراً بحملة أكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان.
لكن ما حدث في معسكر «دي ميل» يذكرنا بأن تكديس المهاجرين في معسكرات هو أمر خطير، حتى لو قام به نظام ديمقراطي.
وبعد أن دشنت ألمانيا النازية الحرب العالمية الثانية بغزوها بولندا عام 1939، ردت فرنسا بإعلان الحرب على ألمانيا بعد ذلك بيومين. وبعد إعلان فرنسا الحرب بيومين، نشرت الجمهورية الثالثة في فرنسا الديمقراطية قائمة بأسماء «الأعداء الرسميين» للدولة الفرنسية، وهم من الألمان الذين اُعتقلوا بسرعة وأرسلوا إلى معسكرات بنيت في عجلة ومنها معسكر «دي ميل».
وما عرف باسم «الأغراب الأعداء» المحتجزين في «دي ميل» كانوا أبعد ما يكونون عن الولاء للنازية، بل كانوا كانوا ضحاياها على الأصح. صحيح أن فرنسا في ثلاثينيات القرن الماضي كانت الدولة الغربية الكبيرة الوحيدة التي أبقت على سياسة الباب المفتوح في الهجرة، لتصبح في نهاية العقد ملاذاً لنحو ثلاثة ملايين أجنبي، بينهم 60 ألف يهودي وآلاف الفارين الآخرين من الفاشية. لكن اللاجئين في فرنسا واجهوا مشاعر خوف متزايدة من الأجانب ومعاداة السامية والاضطهاد. وكاد «ليون بلوم» رئيس الوزراء اليهودي الاشتراكي الذي دافع عن سياسة الهجرة السخية، أن يموت ضرباً على يد جماعة من اليمين المتطرف عام 1936.
وبحلول عام 1938، بعد أن تم تشويه صورة اللاجئين الألمان كمثيري حروب كطابور خامس محتمل، بدأ ائتلاف جديد من يمين الوسط تحت قيادة رئيس الوزراء إدوار دالاديه اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه المهاجرين. فشددت فرنسا حراستها للحدود وقلصت حركة المهاجرين الجدد قبل بداية الحرب. وبعد اندلاع الحرب، انخرطت الحكومة في اعتقال واسع النطاق لغير الفرنسيين. وفي أبريل 1940، لم يكن في معسكر «دي ميل» سوى 400 معتقل. لكن في مايو، حين غزا النازيون فرنسا، اعتقلت الجمهورية الثالثة 3000 آلاف مهاجر آخرين تم إرسال معظمهم إلى «دي ميل». ثم سقطت باريس في يونيو. ومع ظهور حكومة جديدة من اليمين المتطرف في فيشي تحت قيادة المارشال فيليب بيتان ساءت الأمور في المعسكر. فقد وافقت حكومة فيشي بموجب الهدنة مع ألمانيا على تسليم السجناء. لكن نظام فيشي لم يفرغ المعسكر من نزلائه. بل واصل احتجاز «غير المرغوب فيهم» من المعارضين السياسيين واللاجئين المتبقين والرومانيين وأي شخص يقف في طريق نظام فيشي المغالي في قوميته والرجعي اجتماعياً. وبحلول عام 1942 كانت الظروف في المعسكر مروعة. وبدأت حكومة فيشي تجمع طوعياً اليهود من الفرنسيين ومن جنسيات أخرى وترسلهم إلى معسكر أوشفيتز النازي.
وحين أغلق «دي ميل» نهاية عام 1942، كان به 10 آلاف من 38 جنسية. ولولا مذكرات بعض المحتجزين ونشاط الجماعات اليهودية لمنع هدم الموقع في ثمانينيات القرن الماضي، لما علم الناس بأن بعضاً من أسوأ الانتهاكات لحقوق الإنسان قد بدأت بسياسات تتعلق بكراهية الأجانب من حكومة ديمقراطية وليس حكومة يمينية متطرفة أو حكومة في وقت حرب.
ومعسكر «دي ميل» مفتوح الآن أمام الجمهور كمتحف. وعلى جدرانه ما رسمه المحتجزون. وقيل مؤخراً بأن متحف التاريخ الأميركي القومي يسعى لإضافة الرسومات التي أبدعها أطفال محتجزون في معسكرات الاحتجاز التابعة لإدارة الجمارك وحماية الحدود إلى مقتنياته. وهذا يحفظ الذاكرة للأجيال المقبلة عن الممارسات داخل معسكرات الاحتجاز على الحدود الأميركية. لكن المعسكرات مازالت مفتوحة والتاريخ يعلمنا أن بقاءها مفتوحة كفيل بمفاقمة عمليات الاحتجاز والاضطهاد وبحق المهاجرين.

*كاتب مقيم في بروكلين
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»