لم تُؤسَّس وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» لتكرر فعل شيء، وإنما أُسست لترتقي بحدود فهم البشر، ولتساعد الأمة على حلّ المعضلات المستحيلة الكبرى التي تتطلب تقدماً في العلوم والتكنولوجيا. وقبل خمسين عاماً، كانت المعضلة المستحيلة هي إرسال الإنسان إلى القمر للفوز في سباق الفضاء، واستفادت البشرية جمعاء من ذلك الإنجاز.
وأما في الوقت الراهن، لم يعد القمر هو المعضلة العويصة، ولا المريخ، وإنما كوكبنا الأم، ويمكن للوكالة مرة أخرى أنه تسدي خدمة من أجل الأفضل لنا جميعاً.
ودعونا نتذكر تاريخنا. فقد ذهبنا إلى القمر قبل خمسين عاماً ردّاً على محاولة الاتحاد السوفييتي الهيمنة على الرحلات الفضائية. والأميركيون ال12 الذين مشوا على سطح القمر أحضروا 842 رطلاً من المواد القمرية (عبارة عن صخور ورماد)، وتعرّفوا على جيولوجيا أقرب الأجرام للأرض، وأعطونا رؤية لكوكبنا غيّرت وجهة نظرنا. لكن ليس ذلك ما دفع «ناسا» إلى إنفاق زهاء 4 في المئة من الموازنة الفيدرالية في عام 1965. فقد رغبنا في المجازفة بشدة من أجل الهبوط على القمر، لأن أموراً كثيرة كانت في خطر.
وبعد تحقيق ذلك الإنجاز المذهل، سعى مجتمع الفضاء مراراً وتكراراً لمزيد من الدعم الرئاسي. والرئيس دونالد ترامب هو خامس رئيس أميركي يعلن أننا سنرسل البشر إلى القمر والمريخ في غضون فترة زمنية محددة، وأصدر مرسوماً رئاسياً لم ينطو على مقترح يجذب تأييداً شعبياً واسعاً، ولم يقترب أبداً من مرحلة التنفيذ.
وعلى رغم من ذلك، لا تزال «ناسا» واحدة من أكثر الوكالات قيمة واحتراماً في العالم، وتكون الوكالة في أفضل أحوالها عندما يكون لديها هدف محدد. لكن الشعب لا يدرك الهدف من إنفاق أموال طائلة لإرسال قليل من روّاد الفضاء إلى القمر أو المريخ. فهل نحن في سباق فضاء آخر؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل هذا هو أفضل توجيه لقيادتنا التكنولوجية والعلمية؟ وإذا كان العلم هو الهدف، فمن الممكن أن نرسل روبوتات بتكلفة أقل بكثير.
وفي استطلاع للرأي أجراه مركز «بيو» للأبحاث، أكد 63 في المئة من المستطلعة آراؤهم أن مراقبة النظام المناخي في أجزاء رئيسة من الأرض ينبغي أن يكون أولى أولويات وكالة الفضاء الأميركية، بينما احتل إرسال رواد فضاء إلى القمر أقل الأولويات بنسبة بلغت 13 في المئة فقط، وأيّد 18 في المئة الذهاب إلى المريخ.
والشعب محق بشأن ذلك. فالتغير المناخي، وليست روسيا ولا الصين، هو التهديد الوجودي في الوقت الراهن. وتُظهر بيانات أقمار «ناسا» أن الأجيال المستقبلية هنا على الأرض ستعاني من نقص الغذاء والمياه، وزيادة الأمراض، والصراع على الموارد المحدودة. وفي عام 2018، أصدرت الأكاديمية الوطنية للعلوم نتائج استطلاع للرأي تُجريه كل 10 أعوام حول علوم الأرض، وأعلنت أن على وكالة «ناسا» جعل أولى أولوياتها دراسة دورة المياه العالمية والحركة بين المحيطات، والغطاء الجليدي، والمياه الجوفية والمناخ، والتغيرات في بيولوجيا وجيولوجيا سطح الأرض. وتطوير هذه الأقمار وأجهزة الاستشعار فوراً مع توسيع المهام الموجودة من شأنه زيادة إيقاع أنشطة رصد جديدة وأكثر دقة والمساهمة في وضع نماذج مناخية مهمة ودقيقة.
ومن الممكن أيضاً أن تتجاوز «ناسا» الرصد إلى التحرك، من خلال التركيز على حلول للمجتمعات الموجودة في خط الدفاع الأول ضد الجفاف والفيضانات والارتفاعات المتطرفة في درجات الحرارة. ويمكنها تطوير ونشر تطبيقات نموذجية لتوفير معلومات يعتمد عليها السكان الأكثر عرضة للمخاطر في مواجهتهم للظروف المناخية. ويمكن ل«ناسا» إنشاء «فرق المناخ»، على غرار فرق السلام، يقضي خلالها علماء ومهندسون مدة عامين في مجتمعات محلية لفهم التحديات الفردية التي تواجهها، وتدريب السكان المحليين، وربطها بالمعلومات والعلوم المطلوبة لدعم عملية اتخاذ قرارات ذكية في المناطق المحلية.
بيد أن نظام القواعد والمسؤوليات المهترئ فيما يتعلق بمنح كميات هائلة من بيانات علوم الأرض يعيق بشدة الجهود العالمية الرامية إلى تحقيق تقدم كبير. ودور الحكومة الأميركية في معالجة هذا التحدي يتلاشى في غياب تفويض جهة محددة بالمسؤولية. ووضع معايير جمع البيانات وتنسيق تخزينها وتحليلها وتوزيعها يتطلب خبرة في العمل وفق القواعد والتنسيق مع الوكالات الحكومية والجامعات وكذلك القطاع الخاص والمجتمع الدولي. ووحدها فعلت «ناسا» ذلك الشيء من قبل، وهي وحدها تمتلك المصداقية والخبرة لفعلها مرة أخرى.
* نائبة سابقة لمدير وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»