في عام 1950، ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون خطاباً حول خطته «بوتقة الصهر»، الهادفة لخلق «مجتمع يهودي جديد متجانس» في ظل هجرة يهود إلى الكيان الجديد (إسرائيل) من خلفيات ثقافية متباينة، شرقية وغربية. لاحقاً، فشلت الخطة بسبب النظرة الاستعلائية والسلوك العنصري للطبقة اليهودية الحاكمة البيضاء تجاه اليهود الملونين، حينها قال بن غوريون: «عندما يلتقي يهودي عراقي بيهودي روماني في معسكرات المهاجرين، سيشعران بالاختلاف وبالمسافة بينهما، ولن يكون بمقدورهما التواصل، فحياتهما مختلفة، ولا يمكنهما الاندماج والتجانس في فترة قصيرة. ما يحدث هو تجمع لقبائل مختلفة ومتباعدة، والأصح أنه تجمع لقطع ممزقة لا تجانس بينها، وجمعهم معاً في بقعة أرض واحدة سيبرز الاختلافات والفجوات بينهم».
«يهود الفلاشا» ليسوا كمن سبقوهم من اليهود، وجاؤوا من الدول العربية مع تأسيس الدولة الصهيونية، والذين هم أصلاً لم يصلوا في يوم ما إلى درجة «عليا» مثل يهود أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، بل وحتى أوروبا الشرقية. هذا الحال عزز كون المجتمع الإسرائيلي عنصرياً، وبلا هُوية محددة، رغم مساعي الدولة العبرية لإيجاد «هوية إسرائيلية»، خاصة في ظل عدم وجود إجابة محددة وشاملة على السؤال: من هو اليهودي؟! الكثير من الساسة الإسرائيليين رفضوا جلب «يهود الفلاشا»، على رأسهم رئيسة الوزراء جولدا مائير التي قالت إن «الفلاشا سيكونون في حالة مزرية وموضوعاً للاستخفاف والاحتقار»، بل عبرت عن تخوفها من أن «يكونوا جبهة مع السفارديم (اليهود الشرقيين)»، إذ كانت تخشى فقدان سيطرة الأشكناز الأوروبيين على مقاليد الحكم في إسرائيل. وإلى ذلك فإن «يهود الفلاشا» هم في نظر كثير من حاخامات إسرائيل ليسوا يهوداً حقاً، و«تتوجب إعادة إدخالهم الدينَ من جديد وفق التعاليم اليهودية الأرثوذكسية».
ولن نتناول هنا جذور «يهود الفلاشا» (اليهود الإثيوبيون) الذين نقلوا إلى فلسطين المحتلة في تسعينيات القرن الماضي، لكن مع اندلاع تظاهراتهم في الآونة الأخيرة، بدأت الصحافة العالمية تبحث في تفاصيل حياة «يهود الفلاشا» في الدولة الصهيونية، حيث أوردت مجموعة من الحقائق المخزية، لكن غير المستغربة من نظام فصل عنصري: كثير من اليهود الأشكناز لا يعترفون بيهودية الفلاشا ويرفضون تشغيلهم أو تأجيرهم، وهناك حملات يقودها أطباء يهود بيض لتحديد نسل «يهود الفلاشا» من خلال خفض نسبة المواليد بينهم، بوساطة أدوية يتم وصفها باعتبارها مضادات حيوية أو تلقيحاً ضد الأمراض، توطينهم في المناطق الحدودية ليكونوا جدار صد ضد أي هجوم، استخدام لفظ (كوش -العبد) لوصفهم، انتشار الفقر والجريمة بينهم، إذ يعيشون في بيوت الصفيح في العفولة والخضيرة، يعملون في الوظائف البسيطة، ويتواجدون في بلدات سميت «بلدات التطوير»، نسبة التعليم بينهم منخفضة، الأمراض بينهم منتشرة، وهم في نظر اليهود البيض يحتلون آخر سلم الأولويات التراتبية للمكونات اليهودية داخل الدولة الصهيونية.
وقد كتب «رون بن يشاي»، المحلل العسكري لصحيفة «يديعوت أحرنوت»، يقول: «المجتمع الإسرائيلي سوف ينهار من تلقاء نفسه، واليهود المتعطشون للحياة سوف ينتشرون في العالم للبحث عن مكان أكثر هدوءاً وأماناً تحت الشمس».
ومن جهته، وصف الجنرال الإسرائيلي «عاموس غلعاد»، رئيس «معهد هرتسليا»، الدولةَ العبرية قائلاً: «هي أشبه بمنزل محمي بجدران قوية، بينما يأكله النمل الأبيض من الداخل». أما المحلل السياسي المناهض للاحتلال «جدعون ليفي» فكتب متهكماً: «إطلاق النار على يهودي إثيوبي، عمل غير لائق، إطلاق النار على عربي إسرائيلي لائق أكثر، إطلاق النار على فلسطيني من المناطق المحتلة 1967 هو ذروة اللياقة الإسرائيلية».
وبحسب الباحث والمحاضر في جامعة حيفا الدكتور «أرييه كيزل»، فإن النخب الأشكنازية نفذت خطوات تربوية، ضمن سياسة «بوتقة الصهر»، شملت «إجراءات تفضيل وتمييز، خفية ومكشوفة، بينها إجراءات ضد اليهود الشرقيين». أما البروفيسور «أوري ديفيس» فيرى أن «العنصرية أو كراهية اليهود لليهود تتجلى في الممارسة الناتجة عن التاريخ السكاني للاستعمار الاستيطاني الصهيوني السياسي لفلسطين التاريخية، عبر الموجات المتتالية للمهاجرين الأشكنازيين الأوروبيين، وحتى تأسيس دولة الفصل العنصري إسرائيل عام 1948». وأضاف: «رغم أن هؤلاء، ومن بينهم الفلاشا، اعتبروا يهوداً لا تنطبق عليهم قوانين فرضت على عرب فلسطين، فإنهم تعرضوا لممارسات عنصرية طبقية من جانب الحكومة، التي يقودها السياسيون اليهود من أصول أوروبية».
ما يحدث اليوم هو صراع صهاينة مع صهاينة لأسباب عنصرية في كيان قائم على العنصرية. وحسبنا أن نتذكر حقيقة كون هجرة «الفلاشا» إلى فلسطين جاءت ضمن أسباب عديدة لمعادلة الميزان الديموغرافي مع أصحاب الأرض الفلسطينيين، مثلما كانت هجرة يهود الاتحاد السوفييتي سعياً لإبقاء السيطرة الأشكنازية البيضاء على السلطة داخل الدولة الصهيونية.
*كاتب وباحث سياسي