يمكن النظر إلى التقدم، على أنه وعي الإنسان وإدراكه لمعنى وجوده، فقد نشأت الحضارة وتطورت في متوالية من السعي الإنساني الدائم، لأجل أن يكون للوجود معنى. وبملاحظة تاريخ الإنسان الاقتصادي الاجتماعي، كانت الحياة تتقدم وتتحسن بقدر ما يحقق الإنسان المعنى الذي يسعى إليه.. هكذا فإن المعنى، يظل قيمة عليا تشغل الأمم والأفراد والمجتمعات والمؤسسات، وعلى سبيل المثال، فإن جميع المؤسسات العامة والخاصة تبرر وجودها في صياغة مختصرة لرؤيتها ورسالتها، الرؤية بما هي ما نحب أن نكون، والرسالة بما هي ما يجب عمله لنكون ما نحب. وبطبيعة الحال، فإن الأفكار الكبرى والمنشئة للأعمال والمؤسسات تتحول غالباً إلى بديهيات تتعرض غالبا للنسيان والإهمال، أو تنشأ على نحو لا تدركه المؤسسات، أو لا تريد أن تعترف به روايات وأفكار جديدة تستقل مع الزمن عن الرواية المنشئة التي لا يعود يتذكرها إلا قليل من الناس، وقد يبدو ذلك جيداً أو معقولاً ما دامت المؤسسات والقيم والأفكار تعمل لصالحنا، فلا أحد يحب تغيير فكرة أو واقع يعمل لصالحه، بل سيقاوم التغيير، لكن تحدث أزمات ومراجعات كبرى عندما تحدث تحولات كبرى أو خطيرة، مثل أن تستأثر بالمنفعة قلة من الناس، فتصير الأعمال والمؤسسات مصلحة لفئة قليلة وليس جميعهم، إن الجميع هي كلمة السر في الرواية المنشئة والمبررة للأعمال والمؤسسات والتشريعات والقيم والأفكار، وهي ببساطة أن تعود بالفائدة على جميع الناس في مجالها، وألا تحتكرها قلة من الناس، وقد تحدث الأزمة أيضاً عندما تتغير البيئة المحيطة بالأعمال، وتنحسر الأفكار والمصالح المنشئة لها، والتي لم نعد نتذكرها، هكذا تصبح العودة إلى الرؤية والرسالة مواجهة قاسية مع الذات، لأننا نكون أمام حقائق تعمل وتغير، وربما تكون قد مضت شوطاً طويلاً ونحن لا نعرف، أو لا نريد أن نعرف.
وعلى نحو عام بحكم المساحة المتاحة، فإن المعنى الرئيسي الموجه للإنسان كان في مرحلة ما قبل الزراعة حين كان يعتمد في حياته وبقائه على الصيد وجمع الثمار، هو القدرة على البقاء حياً، لكنه في تأمله العميق للحياة ومعناها أنشأ الساحات العامة، التي كان يدفن فيها الموتى ويلتقي فيها الناس موسمياً للاحتفال والبهجة وتنظيم الأعمال وتخزين الطعام، والكهوف التي كان يلجأ إليها للتأمل والعبادة (وليس الإقامة فيها)، وفي ذلك فقد أسس للمدينة التي تشكلت حول الساحات العامة، وتؤشر الرسوم على جدران الكهوف في جمالها ودقتها على المعنى العميق للحياة الذي شغل به الإنسان.
وأسست الوفرة الناشئة عن تربية المواشي والزراعة والصناعات الغذائية (الثورة الزراعية) لازدهار القرى المستقرة ثم المدن، وصار العدل هو المعنى الأساسي المنظم للحياة والمجتمعات، وهكذا تشكلت المؤسسات السياسية والقضائية، وصارت القيادة مستمدة من القوة والشجاعة والكرم، صار معنى الإنسان أو قيمته بخدمة المجتمع وحماية الناس، وتتشكل القيادات والنخب حول هذا المعنى.
وفي الثورة الصناعية، حين استقل العلم عن الحكام والأرستقراطيين والمؤسسات الدينية، وصار جزءاً من الأسواق والأعمال، صار المعنى مستمداً من العمل، إذ يتقدم الإنسان بما يحصل عليه من مهارات ومعرفة أو ما يضيف إلى حياة الناس ومواردهم، والحال أن الدول والمجتمعات الحديثة والمؤسسات المنبثقة عنهما تدور حول «العمل»، بما هو قيمة مركزية للحياة ومعنى أساسي للإنسان.
هل نحتاج اليوم إلى معنى جديد بسبب امتداد التكنولوجيا إلى عمل الإنسان الذي تميز به وشكل معنى وجوده ورؤيته لنفسه على مدى قرون من الزمان؟ أم نحتاج لإدراك الأعمال الجديدة الناشئة لأجل أن نستوعبها ونواصل قدرتنا على العمل؟ ويجب أن ندرك ما يجري اليوم على الأعمال من تحولات، ونعرف أو نقدر ما يختفي أو سوف يختفي منها، وما يتغير أو سوف يتغير، وما ينشأ أو سوف ينشأ من أعمال جديدة، وبطبيعة الحال نحتاج إلى ملاحظة الأزمة في الانتقال والتحولات، لأنها ليست عمليات تلقائية أو سلسة، إذ تقاوم التغير والتحول (وهذا طبيعي ومتوقع) المصالح المستفيدة من الواقع القائم حتى وهو يتداعى، فالأطباء الجراحون لن يعجبهم أن تحل مكانهم أجهزة ذكية تجري العمليات الجراحية، حتى لو كانت هذه التكنولوجيا تجري العمليات من غير جراحة أو أخطاء أو مخاطر، وعلى سبيل المثال فإن جهاز «جاما نايف» يجري أدق العمليات الجراحية في الدماغ والأعصاب في وقت زمني قصير جداً ومن غير حاجة إلى جراحة. والكتاب والصحفيون يفقدون أهميتهم ودورهم في ظل تدفق المعرفة والمعلومات وتداولها وإمكانية التأثير والمشاركة فيها لأي شخص، وهذان مثالان يشكلان غيضاً من فيض الأعمال والمهن والوظائف التي تتبخر أو تتغير جذرياً بسبب التكنولوجيا.. وبالضرورة فإن المعنى يتغير.
*كاتب وباحث أردني