على الرغم من حرص الرئيسين الأميركي والصيني في قمة مجموعة العشرين الأخيرة على العمل على حل القضايا التجارية بين الجانبين، فإن الصراع في العلاقات التجارية الدولية يزداد عمقاً وتعقيداً، ففي غضون الأيام القليلة الماضية حدثت تطورات تؤكد ذلك، فالرئيس ترامب انتقد الصين لعدم التزامها بالاتفاق الخاص بزيادة مشترياتها من السلع الزراعية الأميركية، مما يعني إمكانية اتخاذ إجراءات مضادة من قبل واشنطن.
على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي تحاول دول الاتحاد الأوروبي حماية مصالحها التجارية المتراجعة بسبب هيمنة الشركات الرقمية والتواصل الاجتماعي الأميركية على التجارة الدولية، والتي تتكبد بسببها دول العالم خسائر باهظة تشكل تهديدات حقيقية لاقتصاداتها، ما دفعها إلى اتخاذ بعض الإجراءات لوقف النزيف التجاري، الذي ألحق ضرراً بالغاً بهذه الاقتصاديات، وأدى إلى إفلاس الآلاف من المؤسسات التجارية ومراكز البيع في مختلف البلدان.
في هذا الصدد أقرت فرنسا الأسبوع الماضي، وكأول دولة في العالم ضريبة رقمية على الشركات الرقمية، كأمازون وجوجل وفيسبوك، ما أدى إلى احتجاج أميركي وفتح تحقيق تمييزي، على اعتبار أن الشركات الرقمية الأميركية هي التي تهيمن على التجارة الدولية، بحيث سحبت البساط من تحت أقدام الشركات التجارية التقليدية، بما في ذلك الاستحواذ على الإعلانات التجارية، مع ما سببه ذلك من نقل للأرباح الخيالية من تلك البلدان إلى الولايات المتحدة، وذلك دون مقابل، إذ إنه لا تفرض أية ضرائب على هذه الشركات العملاقة، وذلك رغم استخدامها فضائيات دول العالم وبنيتها الرقمية التحتية.
ولم تصدق لندن خبراً، فأعلنت وزارة المالية في اليوم نفسه مشروع قانون للضريبة الرقمية، حيث بررت ذلك بأن هذه الضريبة تهدف إلى ضمان العدالة والمنافسة في نظامنا الضريبي، ويتوقع أن تبلغ نسبة هذه الضريبة 2% وتوفر للخزانة البريطانية أكثر من نصف مليار دولار سنوياً.
والحال، فإننا نتوقع أن تسير الكثير من بلدان العالم على الطريق نفسه، وتقوم بفرض ضرائب على الشركات الرقمية الكبرى التي استحوذت على التجارة الدولية، وتزداد قوة وانتشاراً، وتقضي في طريقها على شركات الدول التجارية ومؤسساتها الاقتصادية، بما في ذلك الصحف ووسائل الإعلام التي فقدت جزءاً كبيراً من عائداتها الإعلانية، بل إن إعلاناتها أضحت تحت رحمة الشركات الرقمية الكبيرة.
لقد أدى ذلك إلى أن تحقق المؤسسات الأميركية أرباحاً هائلة ومتنامية على حساب شركات البلدان الأخرى، فأرباح «أمازون» في الربع الرابع من عام 2018 وهو موسم الأعياد بلغت 7.4 مليار دولار، في حين وصلت إيراداتها إلى 72.4 مليار دولار. أما أرباح «فيسبوك»، فقد ارتفعت بنسبة 63% في الربع الأول، مقارنة بمثيلتها العام الماضي لتبلغ 5 مليارات دولار، وهو أقل قليلاً من أرباح شركة «جوجل» التي وصلت إلى 5.4 مليار دولار في الربع الأول من العام، وذلك رغم الغرامة التي فرضها عليها الاتحاد الأوروبي والتي بلغت 1.7 مليار دولار.
إذن يقف العالم أمام تغول تجاري أميركي يهدد ليس القطاع التجاري المهم فحسب، وإنما اقتصادات الكثير من الدول، بما فيها المتقدمة منها بسبب انتقال الأرباح إلى الولايات المتحدة وفقدان الوظائف وتدهور أوضاع المراكز التجارية، ما يستدعي إيجاد حلول على المستوى العالمي للحفاظ على الاستقرار التجاري والاقتصادي، إذ إن الحلول على مستوى كل دولة لم تأت بالنتائج المرجوة حتى الآن بسبب الفارق الشاسع بين الإمكانيات والقدرات التنافسية الكبيرة للشركات الرقمية الأميركية وبين مثيلاتها في البلدان الأخرى، حيث حاولت بعض الدول، بما فيها النامية إيجاد شركات رقمية مماثلة، إلا أنها واجهت صعوبات جمة، وذلك إذا استثنينا شركة «علي بابا» الصينية التي تمكنت من اختراق هيمنة الشركات الرقمية الأميركية بنجاح مشهود ربما يرجع السبب الرئيس إلى موقع الصين في الاقتصاد العالمي وحجم اقتصادها وعدد سكانها البالغ 1.37 مليار نسمة، أما فيما عدا ذلك، فإن العالم بحاجة لإعادة هيكلة للتجارة الدولية لتستجيب للعصر الرقمي وتداعياته، وبما يحفظ مصالح مختلف الدول، ويساهم في الاستقرار والنمو الاقتصادي.
*مستشار وخبير اقتصادي