تعد عملية التنظير من أسس العلم الحقيقي والوحدة الأساسية في نسق التفكير العلمي، فلا يوجد علم دون نظريات علمية، والمعرفة التجريبية أو الميدانية تستلهم النظريات العلمية، كما أن نتائجها قابلة للتحول بدورها إلى نظريات. ومن أهم الخبراء الاقتصاديين الذي يمكن أن أذكرهم في هذه المقالة، والذي له رؤية منظمة للظواهر حيث نجح من خلال أعماله في تفسير تلكم الظواهر والتنبؤ بها، هو ريتشارد ثالر، أحد الآباء المؤسسين للاقتصاد السلوكي، والذي فاز في السنوات الأخيرة بجائزة نوبل في الاقتصاد. وينتمي ثيلر إلى التيار الفكري الليبرالي الذي جسده ميلتون فريدمان الحائز بدوره على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976.
تخصص الأستاذ الجامعي والبحاثة ثيلر في تحليل السلوك الاقتصادي، سواء لدى التسوق في السوبر ماركت أو استثمار المليارات في كل أنواع الأسواق المالية، وقام بتأسيس وتطوير نظرية «المحاسبة الذهنية» التي تبين كيف يقوم الأفراد بتبسيط عملية اتخاذ القرارات على الصعيد المالي بإقامة خانات منفصلة الواحدة منها عن الأخرى في أذهانهم، ثم التركيز على وطأة كل قرار فردي عوضاً عن التركيز على التأثير الإجمالي، ولو أوقعهم ذلك في خطأ.
كما نجح ثالر في شرح رفض الناس للخسارة أو فقدان ما يملكونه، موضحاً أن «الأفراد يولون قيمة أكبر لشيء ما إن كانوا يملكونه، أكثر مما إذا كانوا لا يملكونه».
ويذكر أن ثيلر ظهر في فيلم «The Big Short» (العجز الكبير)، وهو فيلم درامي مالي تم إنتاجه في الولايات المتحدة وصدر في سنة 2015. الفيلم من إخراج آدم مكاي ومن بطولة كريستيان بيل وستيف كارل ورايان غوسلينغ وبراد بيت، ويحكي قصة حقيقية في عام 2007، حيث تم التنبؤ بالانهيار في الرهن العقاري، وكيف تمكن مدير استثماري من التنبؤ بانهيار سوق العقار والرهن العقاري في أميركا بعد إعادة دراسة السوق، وكيف قام باستغلال اكتشافه بتعظيم محفظته الاستثمارية والتحديات التي واجهها في ظل تأكيد المصارف وشركات التقييم بأن السوق متين ولا توجد أي بوادر لانهياره.
وريتشارد ثالر، وهو أستاذ في كلية «شيكاغو بوث» للأعمال، له كتاب قيم بعنوان « Nudge » (التنبيه) ألفه بمشاركة «كاس بي سانستين»، وحقق أعلى المبيعات في العالم، وقد بحثا فيه عن الأسباب التي تدفع الأشخاص للاختيارات السيئة أو غير العقلانية في قراراتهم.
دائماً ما أكون مصفقاً للمنظرين الواقعيين العقلانيين في كل المجالات، خاصة عندما تخترق نظرياتهم البحار والقارات وتكون نظرياتهم ذات حمولة فكرية كبرى. ولعل ذكري لثالر يجسد ما يمكن لأناس جدّوا في عملية تنظيرهم من أجل التأثير على مجريات التاريخ، فنظريته عن «التنبيه»، والتي صاغها بنفسه، يمكن أن تساعد الأشخاص في السيطرة على أنفسهم بطريقة مثلى، إلى درجة أن الأبحاث الاقتصادية لهذا الخبير أدت بالحكومة البريطانية إلى تأسيس « وحدة للتنبيه» خلال ولاية رئيس الوزراء السابق ديفد كاميرون، متبوعةً بإجراءات مشابهة في دول أخرى وعلى رأسها أميركا التي فهمت أن أبحاث هذا الخبير لما سيحقق توازنها الاقتصادي وقوتها الاستباقية في رصد المشاكل ومعالجتها قبل فوات الأوان.
ويقيني أننا يمكن أن نطور هذه النظرية لتأخذ أبعاداً جيوسياسية. فمسألة التنبيه في العلوم السياسية قد تؤثر إيجاباً على المجال السياسي العام، لأنها قد تنبه الجميع على مخاطر بعض السياسات وعلى بعض التوجهات الفكرية، وستساعد صاحب القرار على أخذ السياسات العمومية الصائبة، وعلى النظر بعيداً نحو ما يمكن أن يحقق رخاء الشعوب والدول، ونحو التجاوب مع متطلبات الناخبين. كما أنه يمكن لهؤلاء أن يقيسوا مدى فاعلية منتخبيهم، وعدم التصويت لمن لا يجيد منهم إشغال قاطرة التنمية.


*أكاديمي مغربي