كافحت الدول العربية من أجل توطيد هويات جديدة لها بعد استقلالها من الاستعمار الغربي. فلم يقتصر كفاح القادة العرب على رفض الميراث الاقتصادي والاجتماعي للاستعمار السابق فحسب، بل أرادوا أيضاً تحقيق الاستقلال والتحرر من هيمنة أي نظرية غربية تنموية. ولهذا السبب كانت العلاقة بين الدول العربية والغرب غالباً تصادمية، وإعلام تلك الدول تعبوياً يعمل على ترسيخ الانقسام بين الغرب والعالم العربي الإسلامي. أما الوضع في دول الخليج فيختلف، فهي لم تكن مستعمرات، بل كانت تحت الحماية البريطانية.
فمنطقة الخليج العربي لم تصنف كمستعمرات، لا على الصعيد الداخلي، أو حتى من منظور القانون الدولي. فعلاقاتها مع بريطانيا كانت تحكمها المصالح المشتركة التي تضمن الحماية للخليج، مادامت المصالح التجارية مستمرة بطريقة صحيحة. وقد ذكرت الكاتبة الإماراتية الدكتورة منى محمد الحمادي، في كتابها «بريطانيا والأوضاع الإدارية في الإمارات المتصالحة 1947- 1965»، والتي وضحت نقاطه أثناء فعالية «كتاب في ساعة» في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أن (بريطانيا قدمت مصروفات محدودة لمنطقة الإمارات أسهمت بخلق أفكار جديدة في قضايا التنمية).
هذا الفارق في الخلفية التاريخية بين الاستعمار في الدول العربية والخليج العربي، انعكس على تطبيق الهويات العربية. فالعرب جميعاً، تقريباً، متفقون على أن هوياتهم هي العروبة والإسلام، لكن على الرغم من هذا الإجماع، فإن هناك اختلافاً في التفسير.
فمثلاً الهويات العربية في بلاد القوميات العربية لم تظهر بدافع الرغبة في التنمية، بقدر كونها معارضة للغرب تحديداً، وأيضاً هي هويات كانت تجسد مقولة جمال عبدالناصر «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، لكن دول الخليج تفسيرها للهويات مبني على المصالح المشتركة مع الغرب وليس التصادم والمعارضة، كما هي في أغلب الدول العربية. فهي تضع في أولوياتها الشعوب لأن المعركة الحقيقية بالنسبة لها، ليست في أصوات البنادق وساحات القتال، بل في أصوات متطلبات التنمية من توفير الأمن، والوظائف، والصحة، والتعليم، والسكن، وكل سبل رغد العيش والاستقرار.
الخلفية التاريخية لدول الخليج جعلت منها دولاً براغماتية أكثر منها أيديولوجية، وهذا مكمن الاختلاف بينها وبين بعض الدول العربية التي مازالت تفسر الهويات العربية، من قومية عربية وإسلاموية، على أنها انقسام بين الغرب والعالم العربي والإسلامي، والتي قد تعتبر البراغماتية الخليجية على أنها خضوع. إن هذه الفجوة الكبيرة في الرؤى تعكس الفرق بين الفكر والواقع.
وقد انعكس هذا الاختلاف في تفسير الهويات على الإعلام العربي، وبذلك انقسم إلى معسكرين: الإعلام التعبوي الذي تتبناه أغلب الدول العربية ذات التوجه القومي الإسلاموي، وإعلام التهدئة الذي تتبناه دول الخليج عدا قطر. فالأول عبارة عن مزيج من الأيديولوجيات القومية والإسلاموية العربية التي تعمل على ترسيخ الانقسام بين الغرب والعالم العربي والإسلامي. أما الثاني فهو عبارة عن إعلام التهدئة الذي يحاول الحد من حالة الانقسامات هذه، ويسعى إلى ترسيخ وجهات نظر أكثر اعتدالاً. لكن كما انتُقدت البراغماتية الخليجية، انتُقد إعلامها من قبل بعض الشعوب العربية التي ترى في الإعلام الخليجي أنه تابع للسياسة الغربية، في حين ترى شعوب الخليج في الإعلام التعبوي أنه مدعاة للفتنة والشقاق.
نجد أنه على الرغم من مصادر الإعلام المختلفة، فإن هناك نقصاً في معرفة الشعوب العربية. تلك الشعوب تتحدث لغة عربية واحدة، لكنها غريبة عن بعضها البعض. فهناك تقصير واضح في البرامج الحوارية، سواء في الإعلام، أو حتى في الندوات والمؤتمرات، لتوضيح العلاقة بين تاريخ كل دولة عربية وتأثير ذلك على هويتها للتمكن من تقريب وجهات النظر. فالمشكلة الأساسية في مفاهيم القومية العربية والإسلاموية أنهما يتعاملان مع المجتمعات العربية على أنهم بوتقة واحدة، بغض النظر عن الاختلاف في الخلفيات التاريخية والظروف، ومن يخرج عن هذا المألوف يتهم بالخيانة. هذا الأسلوب لم يعد مقبولاً وحتى لو تقبلته الأجيال القديمة، لن تتقبله الأجيال الأصغر، ولن يتم التغلب على هذا الانشقاق إلا من خلال الشفافية في الحوار.
*باحثة سعودية في الإعلام السياسي