لو عممنا النموذج الذي بلوره المؤرخ «ماتييه ري» حول الحالة السورية، في تصور أزمة الدولة المركزية في البلدان العربية التي تشهد - راهناً- مصاعب الانتقال السياسي (العراق، ليبيا، اليمن، بالإضافة إلى سوريا)، لتمكنا من تبين ثلاث مكونات للجغرافية السياسية، هي عناصر المعادلة الراهنة: النخب المدينية والأرياف والبوادي القبلية.
ما يفسره «ري» بخصوص سوريا، هو أن الدولة الحديثة التي تشكلت من خلال ديناميكيتين متتاليتين هما: الغزو المصري والإصلاحات العثمانية من جهة، والسياسات الاستعمارية من جهة أخرى.. تحددت في هندستها السياسية من خلال ثلاث دوائر: أعيان المدن من زعامات دينية وعسكرية وتجارية، في علاقة عضوية بالسلطة الحاكمة التي تجد نفسها في غالب الأحيان مضطرة للاعتماد على مراكز القوة المحلية وتخويلها جانباً وافراً من سلطتها على المجتمع، والأرياف الملحقة بهذه المدن التي تضم فئات الفلاحين المرتبطة في مصالحها الحيوية وأمنها بالنخب الحضرية المتنفذة، كما أنها المصدر الضريبي الأساسي للدولة، والمشيخات القبلية التي هي المصدر الدائم للثورة والتمرد والخطر الذي يتهدد المجتمع الريفي المحتاج للحماية.
ما حدث مع الدولة الحديثة في سوريا هو تنامي المدن واتساعها، باستقطابها العناصر الريفية التي شكلت أساس الإدارة العسكرية والمدنية الدنيا، في الوقت الذي حرصت هذه الدولة على إعادة إنتاج النظام العشائري وتدعيمه للحيلولة دون بروز قوى مدنية فاعلة تطالب بالحقوق السياسية والاجتماعية، وشكلت النخب المدينية العمود المركزي للدولة الحاكمة.
لا يختلف الوضع في العراق واليمن وليبيا عن هذا النموذج، وهي بلدان متشابهة من حيث التركيبة السكانية وتجربة الدولة وطبيعة الأنظمة الحاكمة، قبل الهزات الأخيرة (الأنظمة العسكرية الثورية).
وإذا كانت الدولة الحديثة في العراق، والتي تأسست في عام 1921 على تحالف واسع بين النخب المدينية التي كانت على ارتباط وثيق بالإدارة العثمانية والمؤسسة العسكرية التي تشكلت من أبناء عشائر الأرياف في الشمال الغربي، قد اصطدمت في بداياتها بقبائل الجنوب القوية، فإن المسار نفسه حدث في ليبيا التي حكمتها عند تأسيس الدولة الوطنية عام 1951 النخب المدينية في برقة وطرابلس، وتشكلت قاعدتها العسكرية من الأرياف الموالية للحركة السنوسية، قبل أن ينقلب عليها الضباط المنحدرون من عشائر الغرب.
وعلى الرغم من اختلاف السياق اليمني، وتباين مجاليه الجنوبي والشمالي من حيث التركيبة الاجتماعية والتجربة السياسية، فإن المعادلة الثلاثية (المدينة والريف والقبيلة) بارزة هناك، سواء تعلق الأمر بالإمامة الحميدية شمالاً والسلطنات الجنوبية، أو بتجربة الأنظمة العسكرية التي حكمت طرفي البلاد والدولة الاتحادية.
ويذهب «ري» إلى أن فشل الانتفاضة السورية يرجع - بالإضافة إلى التدخل الخارجي- إلى تحالف النخب المدينية العليا مع النظام الحاكم في مواجهة تحالف سكان الأرياف الزاحفة للمدن والنخب الحضرية الجديدة المتعلمة، في حين نشطت التنظيمات السلفية المتطرفة (تنظيم «داعش» بصفة خاصة) في المناطق القبلية الصحراوية التي انهارت فيها الدولة.
وفي العراق قضى النظام البعثي السابق على النخب المدينية العريقة في بغداد والموصل والبصرة، وبعد سقوطه دخلت البلاد في حرب أهلية دامية بغطاء طائفي يموه انهيار التوازنات الأصلية بين المدن التي كانت في السابق مجالاً للامتزاج الطائفي، والعشائر البدوية التي كانت مختلطة التركيبة المذهبية، في حين كرست موجة «اجتثاث البعث» تهميش وقمع سكان الشمال الغربي الذي أصبح مركزاً لاستقطاب الجماعات السنية المتطرفة.
وعلى الرغم من اختلاف الوضع في اليمن وليبيا، من حيث المعطيات الاجتماعية والسياسية، فإن المعادلة ذاتها قائمة بتجذر الانقسام بين المدن الكبرى التي تتحكم فيها النخب المحلية العريقة، ولو بتحالفات سياسية متقلبة، وخروج الأرياف والقبائل عن نطاق تحكم الدولة المركزية المنهارة، بما يسهل الطريق أمام اختراق الجماعات المتطرفة المسلحة للمشهد السياسي.
ما نريد أن نخلص إليه هو أن التحلل المزدوج للنخب المدينية العليا والمؤسسة العسكرية هو الذي قاد إلى تدمير الجسم السياسي المنظم في البلدان العربية المذكورة، ولم تكن الديناميكيات الاحتجاجية قادرة على بلورة هندسة سياسية بديلة، لضعف قاعدتها الاجتماعية المتشكلة أساساً من النخب الريفية الجديدة التي برزت ونمت في حضن الأنظمة العسكرية الثورية، وكانت في الأصل ركيزتها السياسية والاجتماعية. أما القبائل التي راهنت عليها- أحياناً- المقاربات الخارجية بديلاً عن الهوية السياسية المركزية المنهارة، فإنها وإن كانت لا تزال تشكل إطاراً فاعلاً للتعبئة السياسية وحقلاً لبناء أنماط تضامنية تبدو تلقائية وطبيعية، فهي في حقيقتها الحالية مجرد هياكل يعاد إنتاجها في إطار الصراع على تركة الدولة ومسارات إحيائها.
ومن هنا، فإن المخرج الحقيقي من أزمات الانتقال السياسي في العالم العربي يقتضي إعادة التوازن داخل الحقل السياسي، من خلال تغليب الهوية المدنية للمجتمعات والمصالح العضوية المرتبطة وبناء الهياكل الإدارية والعسكرية الضامنة لها، في مقابل الهويات الريفية والقبلية التي هي الأرضية الملائمة لإعادة إنتاج العصبيات الطائفية والعشائرية المناقضة للمفهوم الجديد للدولة.
*أكاديمي موريتاني