لم أحضر قمة «السلام من أجل الازدهار»، لكني استمعت إلى بعض الخطابات وقرأت الوثائق التي نشرها البيت الأبيض.
ولطالما كنت مشجعاً لفكرة تصور المستقبل، وأثناء إدارة كلينتون، كان شعاري بشأن السلام الإسرائيلي- الفلسطيني هو أننا نحتاج إلى «رؤية للمستقبل تجذب إليها شعباً في ظروف قاهرة». وآنذاك، كان لا يزال هناك أمل في قيام دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وتكون عاصمتها القدس الشرقية.
وقد قادت تلك الرؤية الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى تخيل أن غزة، عند الاستقلال، يمكن أن تصبح مثل سنغافورة. وفي ظل السلام والحرية، يمكن للفلسطينيين ربط الضفة الغربية بغزة، وبناء ميناء بحري ومطار جوي وجذب الاستثمارات، وأن تصبح فلسطين محوراً تجارياً ووجهة سياحية.
لكن على رغم من دعم «جاريد كوشنر» صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومستشاره، ليس هناك جديد في رؤيته فقد تخيّل الفلسطينيون بالفعل ذلك المستقبل المزدهر اقتصادياً. بيد أن كل ذلك تحطم عندما طبّقت إسرائيل حصاراً على الحدود بعد أن ارتكبت مذبحة بحق المصلين في الخليل، ونصبت مئات نقاط التفتيش العقابية في أنحاء الضفة الغربية، وفصلت القدس الشرقية عن الأراضي المحتلة الأخرى، وبنت جداراً داخل حدود عام 1967 وأنشأت شبكة نقاط عسكرية ومستوطنات في وادي الأردن، ومن ثم حرمت الفلسطينيين من الوصول إلى كثير من أراضيهم الخصبة هناك، وشددت سياسات العقاب الجماعي والقمع والإذلال والإهانة لملايين المدنيين الأبرياء، ومنعت وصول الفلسطينيين إلى أكثر من 80 في المئة من أراضيهم ومواردهم الطبيعية، وحاصرت غزة وخنقتها، وبدأت برنامج توسع استيطاني ضخم أدى إلى تضاعف الإسرائيليين في الضفة الغربية بنحو 4 مرات، ليصل عددهم إلى نحو 620 ألف مستوطن.
والحقيقة أن فريق ترامب تغافل عن مصادرة إسرائيل للأراضي الفلسطينية والتوسع الاستيطاني و«تقنين» نقاط التفتيش العسكرية وعمليات هدم المنازل. وإضافة إلى نقل السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية، أذعنوا إلى السياسيات الإسرائيلية التي عززت السيطرة ووسعت تجمعات المستوطنين في القدس الشرقية، وتشير الآن إلى أنها ستنظر بعين الرضا إلى ضم أجزاء أخرى من الضفة الغربية، وقطعت كل المساعدات عن المؤسسات الفلسطينية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس.
ومع أخذ ذلك في الحسبان، بينما استمعت إلى خطاب «كوشنر»، طرأت لي فكرة: تخيلوا لو أن الفلسطينيين أخذوا المال وهربوا!
ومنذ بدايتها، تمرّست إسرائيل على فن المراوغة. فقد وافقوا مراراً وتكراراً على شروط لم تكن لديهم نية احترامها. وبدلاً من ذلك، حصدوا منافعها ومضوا قدماً. ففي البداية، وافقوا على التقسيم، ثم حاكوا المؤامرات من أجل القيام بتطهير عرقي للمنطقة لإقامة كيانهم. ثم وقعوا اتفاقات كامب ديفيد من دون أي نية لتطبيق الحد الأدنى من بنودها الخاصة بالفلسطينيين. وفعلوا ذلك مع اتفاقات أوسلو واتفاقية «واي ريفر». ووافقت مراراً وتكراراً على «تجميد الاستيطان»، لكنها لم تعتزم أبداً وقف توسيع هيمنتها على الأراضي المحتلة. فماذا لو قرر الفلسطينيون القيام بالخدعة ذاتها؟ ماذا لو فعلوا ما يفعله الإسرائيليون؟ وماذا لو قرروا بناء اقتصاد فلسطيني وتحسين الحياة المعيشية اليومية للفلسطينيين وتركيزهم منصب على الهدف طويل الأمد؟
فالموافقة على ممارسة الخدعة ذاتها لا يلغي بأي وسيلة حقوق الفلسطينيين، والتمكين الاقتصادي لا يبطل الحقوق السياسية، ولا يشتري إذعاناً لإنكار هذه الحقوق. ولا يمكن شراء التطلعات الفلسطينية المشروعة أو بيعها بأي ثمن.
لكن دعونا نواجه الواقع، فنحن في إطار حقيقة نشأة دولة واحدة.. دولة فصل عنصري. وقد قادت السياسات الإسرائيلية إلى ذلك. وغالبية السكان في حدود هذه الدولة الواحدة من العرب. والمشكلة أن الفلسطينيين يفتقرون إلى الحقوق والسلطة، وليست لديهم استراتيجية لكسب السلطة التي يحتاجونها لنيل حقوقهم. فماذا لو استغلوا الفرصة التي تتيحها خطة «كوشنر» لبناء مجتمع فلسطيني كخطوة مهمة على طريق تعزيز القوة لنيل الحرية والحقوق السياسية؟ ويظهر التاريخ أن الشعب الذي يعيش في بؤس اقتصادي يكون أقل تشبثاً بالمطالبة بالحقوق السياسية. وعندما يحصلون على درجة من الراحة الاقتصادية يتحولون إلى المطالبة بمزيد من الحرية السياسية.
لذا، إذا كان «كونشر» يعد بفتح الضفة الغربية عن طريق إزالة القيود على السفر؛ وربط الضفة بقطاع غزة؛ وجعل غزة ملاذاً سياحياً؛ وتعزيز الاستثمار في المؤسسات الفلسطينية، وغير ذلك، فماذا لو أخذ الفلسطينيون المال وتنصلوا؟ وماذا لو استغل الفلسطينيون هذا العرض في وضع رؤية استراتيجية جديدة، واتخذوا الخطوات الأولى لتحويل واقع الدولة الواحدة الناشئ راهناً إلى دولة علمانية ديمقراطية؟
وما سيحدث هو أن الفلسطينيين سيواصلون المطالبة بالحرية والحقوق. وكأغلبية مُمكّنة، ستكون مسألة وقت قبل أن ينهضوا ويحصلوا على حقوقهم، حتى لو لم تكن هذه هي الرؤية المستقبلية التي تسعى إليها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
وإذا لم تكن الولايات المتحدة وإسرائيل ترغبان في ذلك، فعندئذ ربما تكون فكرة جيدة أن تتحليا بالجرأة وتتخذا قراراً بإنهاء الاحتلال ومنح الفلسطينيين حقوقهم والعدالة والحرية التي يستحقونها والتي يحتاجونها حقيقة للازدهار في دولتهم المستقلة.
*رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن