إذا كانت الأموال والاستثمارات تفتش دائماً عن «جنات ضريبية»، يلجأ إليها الأغنياء طلباً للاستقرار والأمان والربح المضمون، يبدو أن لبنان لم يعد «جنة ضريبية»، كما كان طوال العقود الماضية، بدءاً من مطلع الستينات في القرن العشرين عندما أطلق عليه لقب «سويسرا الشرق» لجهة قدرته على جذب الأموال والاستثمارات من كل حدب وصوب، وقدرة قطاعه المصرفي على جذب الودائع وتأمين الأرباح للمستثمرين، حتى تمكن من مضاعفة ميزانيته المجمعة عدة مرات، وتبلغ حالياً نحو 252 مليار دولار، وتوازي أكثر من أربعة أضعاف حجم الاقتصاد. لذلك وصفه رئيس «جمعية المصارف» الدكتور جوزيف طربيه بأنه «أنجح قطاع في المنطقة العربية، وهو ركيزة استراتيجية لاقتصاد لبنان». ولكن الجمعية أكدت بقلم أمينها العام الدكتور «مكرم صادر» بأن القطاع يتعرض لضغوط خارجية وداخلية، حيث تتزامن المواقف بين مجموعة الضغط الإسرائيلية في واشنطن «إيباك» وبعض الأطراف السياسية الأساسية في لبنان بمهاجمة المصارف اللبنانية، ويضيف متسائلاً: فالضغوط الخارجية مفهومة من قبل معظم المحللين، لأن تقويض الاستقرار النقدي قد يغرق لبنان ومعه «حزب الله» في نظر مجموعة الضغط هذه، أما هجوم بعض الأطراف اللبنانيين على المصارف، لا يجد تفسيراً غير الاعتقاد بأن هذه الأطراف بحاجة إلى تمويل يعوض تراجع مصادر التمويل السياسي الخارجية.
وفي سياق الضغوط الداخلية، تبرز أهمية مساهمة المصارف في تمويل خزينة الدولة عن طريقين: الأول، دفع الضرائب التي تصل إلى نسبة 60 في المئة، بدلاً من 17 في المئة التي فرضت على أرباح الشركات، ولم تكتف الحكومة بذلك، بل قررت في موازنة العام الحالي رفع الضريبة على الفوائد من 7 إلى 10 في المئة في المئة. أما الطريق الثاني، فهو إقراض الخزينة نحو 72 مليار دولار بفوائد متوسطة قدرها 6.4 في المئة، بدلاً من 12 في المئة في المتوسط، تدفعها أي دولة مصنفة بدرجة (- B) من قبل مؤسسات التقويم الدولية، مثل تصنيف لبنان، ما يوفر على الخزينة 5.5 مليار دولار سنوياً. ولكن يلاحظ أنه بسبب التطورات السلبية التي تتعرض لها المصارف، تراجعت «ثقة» المستثمرين. وثمة مصارف أجنبية عدة تحوم حول كبار المودعين لإقناعهم بتحويل أموالهم إلى الخارج، مع العلم أن بعض التقديرات تشير إلى «هروب» أكثر من 10 مليارات دولار منذ العام الماضي، وانعكس ذلك زيادة في تراكم عجز ميزان المدفوعات وتراجعاً في احتياطي البنك المركزي.
لأول مرة تصدر المفوضية الأوروبية تقريراً عن وضع الاقتصاد اللبناني، وانتقدت فيه إقدام الحكومة على تضمين موازنة العام الحالي زيادات في الرسوم والضرائب، في حين أهملت ضرورة التركيز على إصلاح النظام الضريبي وسد «مزاريب» الهدر والفساد والتي توفر للخزينة الموارد الإضافية التي تحتاجها، وحذرت المفوضية من مخاطر مستقبلية يواجهها لبنان، وتكمن في أزمة دين، وأزمة نقدية، وأزمة مصرفية، مؤكدة على «ضرورة استعادة ثقة المستثمرين وإعادة تدفق الاستثمارات». ولكن يبدو أن تحقيق ذلك دونه صعوبات، يتطلب تذليلها العمل على توفير عدة عوامل أساسية، أهمها: الاستقرار الأمني، حيث يقع لبنان في منطقة عالية المخاطر ويتحمل انعكاسات تداعياتها. والاستقرار السياسي، حيث يعاني لبنان صراعات بين القوى السياسية. فرض هيبة الدولة ودعم قدرتها على تنفيذ القوانين، ضمان استقلالية القضاء وإبعاده عن تأثير السلطة السياسية والسياسيين، والإسراع بإصدار الأحكام العادلة، وخصوصاً ما يتعلق منها بحقوق المستثمرين. اعتماد موازنة سنوية ذات أهداف اقتصادية تنموية تهتم بإطلاق مشاريع حكومية. وأخيراً مكافحة الفساد، وفي هذا المجال، بدأت الحكومة خطوات خجولة جداً، وغير كافية لإقناع رجال الأعمال والمستثمرين.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية