حذر السير «ماكس هاستينجز» في مقال نشرته صحيفة «الجارديان» الأسبوع الماضي من صعود «بوريس جونسون» إلى أعتاب رئاسة وزراء بريطانيا». و«هاستينجز» هو رئيس تحرير سابق لصحيفة «ديلي تليجراف» «المحافظة» التي لطالما ساندت حزب «المحافظين» بإخلاص على مدار أجيال. ومثل كثير من «المحافظين» الآخرين و«المحافظين السابقين»، يتصدى «هاستينجز» لحقيقة أن وزير الخارجية السابق «بوريس جونسون» من المرجح جداً أن يصبح رئيس وزراء بريطانيا عندما يصوّت 160 ألف عضو في الحزب للاختيار بينه وبين «جيرمي هانت» في 22 يوليو المقبل. ويوضح «هاستينجز» أن «انتخابه سيشير إلى تخلي بريطانيا عن أي ادعاء بأنها دولة جادة».
وقائمة الأصدقاء والزملاء القدامى الآخرين الراغبين في شجب «جونسون»، أو حتى الاستهزاء به، ليست قصيرة. وقال صحفي عمل معه: «إن مبدأ جونسون أنه من المقبول، وفي بعض الأحيان من المرغوب، أن يكذب في تصريحاته».
وقد عملت مع «هاستينجز» وعرفت «جونسون» على مدار نحو 30 عاماً، وأقتبس تصريحات أشخاص آخرين عرفوا «جونسون» منذ وقت طويل، لأننا جميعاً نعرف أنه يبالغ في قصصه.
ووظّف «هاستينجز» «جونسون» كمراسل لصحيفة «تليجراف» في بروكسل، وسمح له بالبقاء على مدار سنوات لأنه صور الاتحاد الأوروبي باعتباره «رمز لجنون القوانين»، وكتب مقالات مسلية بعناوين مثل: «تهديد على النقانق الوردية البريطانية» أو تكرار الإشاعات الكاذبة بأن «الموظفين البريطانيين يتجهون إلى حظر الحافلات ذات الطابقين».
وعلى رغم من أنها كانت موضع سخرية الأشخاص المطلعين، إلا أن تلك الأساطير التي روّج لها «جونسون» كان لها تأثير، وساعدت على زعزعة الثقة في الاتحاد الأوروبي التي أفضت إلى «بريكست» في نهاية المطاف.
وكان «جونسون» مدركاً لذلك التأثير، واستمتع به. وأوضح لاحقاً ل` «بي بي سي»: «لقد كنت أرسل تلك المقالات المؤثرة من بروكسيل، وأستمتع بصداها الكبير في إنجلترا»، لافتاً إلى أن كل ما كتبه من بروكسل كان له تأثير ناسف ومدهش على حزب «المحافظين»، وهو ما منحه في الحقيقة «ذلك الشعور الغريب بالقوة».
وهذا «التأثير المدهش» في لندن ساعد أيضاً في بيع الصحف، وهو سبب جزئي في أنه تم السماح لـ «جونسون» بالبقاء لسنوات طويلة. لكن كان هناك أيضاً سبب أعمق ألا وهو أن: «تلك القصص غير الدقيقة راقت للمحافظين التائقين للأمجاد الغابرة الذين استاؤوا من فكرة أن بريطانيا لم تعد إمبراطورية قادرة على بسط نفوذها في العالم بممارسة التأثير في بروكسل». وقد أدرك «جونسون» ذلك الجمهور الغاضب والقوي، وغذى غضبه.
وبعد أن أصبح عمدة لندن، تراجع «جونسون» عن وجهة نظره تلك، وأعاد تقديم نفسه باعتباره مدافعاً عن المدينة العالمية، المتكاملة مع أوروبا في العالم. وقبل نحو عام على حملة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أخبرني بأن «بريكست» فكرة سيئة، وأن لندن تعارضها، وأنها لن تحدث. لكن كما هو معروف، غير رأيه في عام 2016. وأدرك أن الحركة المناهضة لأوروبا التي فعل الكثير من أجل ظهورها قد أسرت حزب «المحافظين». ولابد أنه أدرك أنه ليصبح زعيم الحزب، ومن ثم رئيس الوزراء، فعليه أن يعزف مرة أخرى على وتر الحنين العميق إلى الماضي، وهذا ما فعله.
ومن هذا المنطلق بالتحديد، وليس غيره، يشبه «جونسون» الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فقد تم التسامح مع مزاعم ترامب وادعاءاته على مر السنين من قبل من حوله. ومثل جونسون، تمكن ترامب من تمرير ادعاءاته، التي ساهمت أيضاً في بيع الصحف، وراقت لكثيرين في نيويورك صورة رجل الأعمال الجريء والناجح الذين يتمنون أن يصبحوا مثله يوما ما.
وبعد أن أصبح ترامب رئيساً، كان الوقت قد تأخر كثيراً للتحقيق في مزاعمه وعلاقته. وكان ينبغي التدقيق في كل ذلك قبل عام 2016 بوقت طويل. وربما قد فات أوان وصف «جونسون» بأنه «حالم» بعد أن تسامحت معه «ديلي تليجراف» وحزب «المحافظين» ووزارة الخارجية البريطانية على مدار ثلاثة عقود. والحقيقة هي أن «جونسون» ليس سبب عدم الجدية البريطانية، وإنما هو نتاج مؤسسات توقفت عن التصرف بجدية منذ وقت طويل.
مؤرخة وأستاذة في «مدرسة لندن للاقتصاد»
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»