في عام 1996، أي بعد خمس سنوات على كارثة تشرنوبل التي وقعت في صيف 1991، وكان آخر صيف للاتحاد السوفييتي، زرتُ أوكرانيا. ذهبت مشياً إلى المنطقة المحظورة –وكانت قد أخليت من سكانها بعد الحادث– رفقة نشطاء بيئيين محليين. جلبنا معنا جهازاً لقياس الإشعاعات، وكان مؤشره مع اقترابنا من الموقع. وأتذكر أننا تحدثنا مع طبيب محلي، لكنه لم يكن صريحاً ولا متعاوناً. وحكى لنا بعض الناس عن خنازير برأسين وأبقار متحولة، لكن آخرين نفوا ذلك باعتباره مجرد شائعات.
والواقع أنه لم يكن ممكناً معرفة الكثير عن تشرنوبل عندما كان المرء هناك بعد خمس سنوات على الحادث. فعدد الوفيات كان محل خلاف، وما زال كذلك إلى اليوم. وكما كتبتُ وقتها، فإن العدد الرسمي كان 31 حالة وفاة، والمدير العلمي للمنطقة المحظورة كان يعتقد أن الرقم يناهز 7 آلاف، هذا فيما استخدمت منظمات سوفييتية غير حكومية أرقاماً أعلى بكثير، وذهبت إلى أن الوفيات المبكرة نتيجة الحادث كانت في حدود 300 ألف. غير أنه لم تكن ثمة إمكانية للتأكد من حجم الإصابات.
والواقع أن كل من شاهد سلسلة «تشرنوبل» التلفزيونية الرائعة المؤلفة من خمسة أجزاء، والتي أنتجتها «إتش بي أو»، أو قرأ كتاب سيرهي بلوكي الفائز بجوائز عديدة، «تشرنوبل: تاريخ كارثة نووية»، يعلم أنه كانت ثمة مشاكل حقيقية. ذلك أن طبقات سميكة من الأكاذيب كانت تحيط بالحادث منذ البداية. ذلك أن قيادة المفاعل النووي أولاً، ثم القيادة السوفييتية بعد ذلك، غطيا على الانفجار، ولاحقاً حاولا التستر على الأخطاء البشرية التي أدت إلى الكارثة. ولهذا، لم يتم أخذ قياسات، ولم يتم القيام بتقييمات، ولم يبلّغ الضحايا بشيء.
ومع الوقت، خلق حجم الكذب مشكلة إضافية: تبدد الثقة في المؤسسات السوفييتية، الطبية والعلمية والسياسية، لاسيما في أوكرانيا. فالشائعات حلّت محل المعلومات، ونظريات المؤامرة حلّت محل التفسيرات. ونتيجة لذلك، أصبحت تشرنوبل مصدر إلهام مهم لحركة الاستقلال الأوكرانية الناشئة، كما أقنعت تشرنوبل آخر أمين عام للاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشيف، بإطلاق برنامج «غلاسنوست» أو الانفتاح، اعتقاداً منه بأنه إذا بدأت المؤسسات السوفييتية في قول الحقيقة، فسيمكن تفادي كوارث أخرى مماثلة، وسيبقى الاتحاد السوفييتي في أمان.
ورغم مرور حوالي ثلاثة عقود على الانفجار الذي تسبب في إطلاق موجات من الإشعاعات في الجو، ما زال ثمة كثير من الأشخاص الذين يريدون التحدث حول الموضوع والقراءة عنه ومشاهدة أعمال درامية مستوحاة منه. لكننا نعيش عصراً تُنسى فيه دروس تشرنوبل. فداخل روسيا، هناك عودة لثقافة التعمية الرسمية: فقد كانت ثمة دعوات لحظر سلسلة «إتش بي أو» بدعوى أن تصويرها للعجز والفساد السوفييتي هو بشكل ما إهانة لروسيا المعاصرة ولذكرى الإمبراطورية السوفييتية. ولأن الشرف الوطني أهم من الحقيقة، طلبت قناة تلفزيونية روسية «إن تي في» إنجاز سلسلة خاصة بها حول تشرنوبل. سلسلة لن تحكي القصة الحقيقية، وإنما ستزعم بأن الأمر كله كان مدبراً من قبل «سي آي إيه». فهناك بات العلم محل شبهة، ونظريات المؤامرة مزدهرة، والسياسة عبارة عن سلسلة عمليات للتغطية والتستر.
وفي واشنطن الحالية أيضاً تُقلَّص اللجان العلمية الاستشارية، وتُلغى القوانين البيئية المصمَّمة لحماية الجمهور من التلوث. والمناصب في الوكالات المقنِّنة المعنية بالبيئة، والتي كانت تُشغل في الماضي من قبل أشخاص ذوي خبرات علمية، باتت تُشغل اليوم من قبل أشخاص يأتون من الصناعات المقنَّنة.
والمفارقة أن معظم هذه الأشياء لا تحدث سراً وإنما تجري في صمت. والواقع أننا لا نعيش في ثقافة رقابة مثل تلك التي كانت في العهد السوفييتي، وإنما في ثقافة تغطي على الكلمات بالكلمات وتتجاهل الأفكار والأحداث المهمة. إننا محظوظون للغاية، لأنه لم تصب البلادَ أيُّ كارثة نووية أو غيرها، وإلا لاكتشفنا أن انهيار الثقة كبير جداً لدرجة أننا لم نعد مستعدين.

*مؤرخة أميركية وأستاذة بكلية لندن للعلوم الاقتصادية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»