رأينا في مقالتنا للأسبوع الماضي أن حركية الطلاب يجب أن تكون مرنة داخل النظام الجامعي وبين مختلف الدول والمناطق. غير أن هذا التحول يطرح تساؤلا جوهرياً مرتبطاً بالحفاظ على جودة الجامعات وباقي مؤسسات التعليم العالي الأخرى. هناك بالطبع وسيلة أخرى للتقليل من الفوارق بين الجودة والكمية في التعليم العالي، وهي القيام بدراسات قبْلية لمعرفة حاجيات السوق، ومن ثم وضع البرامج التعليمية الملائمة. لكن هل الجامعة مكان يتعلم فيه الطلاب طريقة التفكير أم مكان لاكتساب القدرات لولوج سوق الشغل فحسب؟ إنه السؤال الفلسفي الأساسي الذي يطرح نفسه. وهنا أيضاً، على الجامعة أن تحدد مسبقاً رؤيتها ومهمتها وأهدافها ومكوناتها.
لا جرم في أن الجامعات التي لا تتكيف وتقدم تكنولوجيا المعلومة والاتصال، ستبقى بتراء. ونحن نعلم أن النصف الثاني من القرن العشرين شهد ثورة الاتصال الخامسة حيث يمكن تمييز تطور الاتصال من خلال خمس ثورات أساسية، تتمثل أولاها في تطور اللغة، والثانية في الكتابة، والثالثة في اختراع الطباعة (منتصف القرن الـ15 على يد العالم الألماني غوتنبرغ)، ثم بدأت معالم ثورة الاتصال الرابعة في القرن التاسع عشر من خلال اكتشاف الكهرباء والموجات الكهرومغناطيسية والتلغراف والهاتف والتصوير الضوئي والسينمائي، ثم ظهور الراديو والتلفزيون في النصف الأول من القرن العشرين، أما ثورة الاتصال الخامسة فقد أتاحتها التكنولوجيا في النصف الثاني من القرن العشرين من خلال اندماج ظاهرتي الانفجار المعلوماتي وتطور وسائل الاتصال وتعدد أساليبه.
لقد زلزل تقدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مناهج التعليم والتعلم، حيث أصبح من الصعب على أستاذ الجامعات العصرية، غير الملم بالتقنيات الجديدة للتواصل، أن يتماشى مع طلاب هم على دراية كبيرة بوسائل الإعلام الاجتماعية. وعلاوة على ذلك، فاللغة المهيمنة على مواقع الإنترنيت هي الإنجليزية (57?)، متبوعة بالألمانية (6,5?)، ثم الروسية واليابانية والإسبانية والصينية، وأخيرا الفرنسية بنسبة (3.9?). وهذه أحد التحديات الرئيسية التي تواجهها الجامعات الناشئة، وتتمثل في إقامة أرضية تكنولوجية تمكن الطلاب والأساتذة من الوصول إلى المعارف المتوفرة والمجانية. وهكذا، يمكن للأساتذة التحرر من قيد إعادة خلق الدروس، وبالتالي استغلال وقتهم في تدريب الطلاب بدل إغراقهم بمعلومات متوفرة في الإنترنت.
كما أن تسويق المعارف يجب أن يكون من أحد أهداف الجامعة، وهذه الثقافة للأسف الشديد غائبة في العديد من جامعاتنا، فالثلاثية «جامعة -حكامة -صناعة» هي التي تبني الأمم الغربية وتقوي صناعاتها وتساهم في بناء الحاضر والمستقبل. فاليابان دولة مساحتها محدودة جداً، لكنها تمثل ثالث اقتصاد في العالم، ولا يخلو بيت من بيوتات العالم إلا وتجد به آلة أو حاسوب أو هاتف صنع في هذا البلد الذي هو عبارة عن مصنع كبير قائم على الثلاثية «جامعة- حكامة- صناعة»، وعلى سياسات عمومية ثاقبة في مجال الصناعات المتطورة والاستثمارات الواقعية. تستورد اليابان كل المواد الخامة لإنتاج مواد مصنعة تصدرها لكل أقطار العالم. ولنأخذ بلداً أوروبياً مثل سويسرا؛ فرغم عدم زراعتها للكاكو، فهي تنتج وتصدر أفضل الشوكولاتة في العالم، كما أنه رغم جغرافيتها وضيق مساحتها الزراعية، فهي تنتج أهم منتجات الحليب في العالم.
كما نرى اليوم كيف أن دولة مثل الهند بدأت تستفيد من تطور بحثها العلمي في الجامعة ومن الاستثمار في الموارد البشرية والتكنولوجيا المتطورة، لذا يتنبأ بعض المحللين الاقتصاديين بأن تحتل الهند الرتبة الثالثة بين اقتصادات العالم بحلول عام 2030، نظراً للتطور الهائل الذي يشهده القطاع الخاص الهندي.
ولا شك أنه لنا نفس القابليات الفكرية، لكن الفرق يكمن في الجامعة التي نريدها لبلداننا.. فالمطلوب حالياً من الدول العربية هو تطوير جامعاتها وبحوثها العلمية، لأن تقدم الأمم يكون بالعلم أولا وأخيراً.. لذلك يجب أن نكافئ بشكل جلي اكتسابَ المعرفة وتوظيفها من خلال التعليم والتعلم والبحث والتطوير الثقافي، وإقامة مجتمع معرفي يصبو إلى تأسيس نمط إنتاج اقتصاد المعرفة عوضاً عن هيمنة نمط الإنتاج التقليدي.
*أكاديمي مغربي