على رغم الحظر المفروض على المواكب والمظاهرات، خرج نحو 25 ألفاً من اللبنانيين إلى شوارع بيروت، يوم الاثنين الماضي وهم يرددون الهتاف "سوريا بره ... سوريا بره" واستطاعوا التعجيل باستقالة حكومتهم الموالية لدمشق. ومنذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في الرابع عشر من شهر فبراير المنصرم، توحد صوت اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين ودروزاً، وطردوا خوفهم القديم من السوريين. وسواء كانت القيادة السورية، أم عناصر من أجهزتها الأمنية، أم عناصر لبنانية تعتمد على الهيمنة السورية على لبنان، وراء جريمة اغتيال الحريري، فقد أخطأت الجهة أو الأفراد الذين لطخوا أياديهم بدمائه، خطأً فادحاً في تقدير التداعيات والعواقب. وكانت الرسالة التي أراد هؤلاء توجيهها بقتلهم لرفيق الحريري، هي إنذار كل من تسول له نفسه من القادة اللبنانيين الآخرين، الدفع أو محاولة التعجيل بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الذي دعا ضمناً إلى انسحاب القوات السورية من لبنان، بأنهم سيلقون المصير ذاته. غير أنهم فوجئوا بعكس ما قصدوا تماماً.
فها هو اليوم وليد جنبلاط الذي كان قد تعلم من مقتل والده، مخاطر مواجهة وتحدي السوريين، يقف في الصف الأمامي من اللبنانيين المطالبين بانسحاب القوات السورية. وقد توحدت صفوف اللبنانيين جميعاً، بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية والسياسية، احتجاجاً على الاحتلال السوري، وهم يدركون أنهم ليسوا الوحيدين في المنطقة، الذين يرفعون هذا المطلب. فوفقاً لاستطلاع الرأي العام العربي الذي أجرته قناة "الجزيرة"، اتضح أن 77 في المئة من العرب، يعتقدون أن سوريا وراء اغتيال رفيق الحريري، وأن عليها أن تنسحب فوراً من لبنان. وبالطبع فإن أغلبية كهذه في الرأي العام العربي، إنما تزيد اللبنانيين شجاعة وإصراراً على مقاومة "الاحتلال" السوري.
غير أن هناك حدثاً مهماً يجري الآن في لبنان، ولن تقف نتائجه وتداعياته على حدود لبنان وحدها، وإنما تتخطاها لتهز أركان الأنظمة الشمولية، على امتداد الشرق الأوسط بأسره. فما أن يطرد الشعب خوفه من هذه الأنظمة، حتى تفقد الأخيرة، كثيراً مما تعتمد عليه في بقائها، طالما أن الدعامة الرئيسية لهذه الأنظمة، هي نشر الخوف. وهناك من يعتقد – بمن فيهم وليد جنبلاط- أن الانتخابات العراقية ألهمت اللبنانيين، بعد أن رأوا جسارة العراقيين وتحديهم لموجة الذعر التي أشاعها بينهم أعداء الديمقراطية هناك. ولكن الحقيقة أن ما نراه اليوم في لبنان، ليس استجابة لما حدث في العراق فحسب، وإنما فيه أصداء الانتخابات الفلسطينية أيضاً. ووجه المفارقة – مثلما لاحظ بعض المعلقين العرب- أن الشارع العربي، لا يعلو صوته ويكون له حضور قوي ومؤثر في رسم وتشكيل مستقبله، إلا حين يخضع للاحتلال الأجنبي لبلاده! فهل يستقيم هذا الرأي؟
على أية حال، فإن هناك مؤثرات أخرى، على نهوض الشارع اللبناني دون شك. من هذه نذكر "ثورة البرتقال" التي شهدتها مؤخراً أوكرانيا. ولك أن تنظر كيف استعار اللبنانيون من أهالي كييف، نموذج الاحتجاج والعمل الشعبي. فقد أقام المحتجون على اغتيال رفيق الحريري، مدينة كاملة من الخيام، أقاموا فيها، ورفضوا مغادرتها، إلى حين يتحقق الانسحاب السوري. وإن كان الأوكرانيون قد أدهشوا العالم، ولفتوا الأنظار إليهم، فإنهم إنما فعلوا ذلك، ليس عن طريق العنف، بل بالوقوف الجماعي الموحد ضد السلطات. واليوم فقد تحرر اللبنانيون من خوفهم، ورفعوا مطالبهم عالياً، فهل يتحقق لهم ما يشاءون؟
من جانبه يعتقد النظام السوري، أنه لابد من التشبث بالسلطة والثروة في لبنان، وإلا ضاع من بين أصابعهم كل شيء. ولكن الواقع أن البدائل المتاحة لهم في لبنان، باتت عديمة الجاذبية والإغراء. فلا يعقل مثلاً أن يقدم أي كان، على شن حملة شعواء على المتظاهرين اللبنانيين، تقتل فيهم من تقتل، لتستقطب غضب العالم كله على دمشق، وتضرب عليها طوقاً منيعاً من العزلة الدولية، وتجلب لها ما هو أشد وأكثر قسوة من العقوبات الأميركية المفروضة. أما إن حاولت دمشق توظيف "حزب الله"، في إشعال نار الفتنة الداخلية، أو صرف الأنظار عما يجري في الساحة اللبنانية، بافتعال أزمة مع الإسرائيليين، فإنه سينظر عندها إلى هذا الحزب، باعتباره "مليشيا" أجنبية، مسخرة لخدمة مصالح دول أخرى، لا علاقة لها بالمصالح الوطنية اللبنانية. ولما كانت أولوية "حزب الله" دائماً، هي لبنان، فإنه لا شك يتخوف الآن، من أن يبدو بمظهر من ينفذ "العطاءات" السورية.
بالنظر إلى بؤس وشح الخيارات المتاحة، فإنه ليس ثمة غرابة أن يعلن الرئيس السوري بشار الأسد، عن انسحاب جزئي من الأراضي اللبنانية. وفيما لو شعر بشار بأن التضحية بالرئيس الحالي إميل لحود، ستخفف عليه قوة العواصف التي يواجهها الآن، فإنه لن يتردد، مع العلم بأن لحود كان العدو اللدود للحريري. وربما يفلح قرار كهذا، في منع اندلاع نار الحرب الطائفية مجدداًً. لكن وبالنظر إلى طول القهر السوري الذي ذاقه اللبنانيون، ومع ما لاح لهم